للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

سبيل إلى عزله، ولا محيص عن الإقرار به، ولا فكاك من اطّراده بغير دافع أو مانع.

واتّصل كلام ابن يعيش على تقطّع في عبارته الّتي ما كانت أداته تواتيه فيها، مع تدفّق خواطره عليها، فقال: الرؤيا ظلّ اليقظة، وهي واسطة بين اليقظة والنوم، أعني بين ظهور الحسّ بالحركة، وبين خفائه بالسكون.

قال: والنوم واسطة بين الحياة والموت، والموت واسطة بين البقاء الّذي يتّصل بالشهود وبين البقاء الّذي يتّصل بالخلود.

قال: وهذا نعت على تسهيل اللفظ وتقريب المراد والتصوّر، ودون الثقة شوك القتاد، وازدراد العلقم والصاب، للحواجز القائمة والموانع المعترضة من الإلف والمنشأ وغير ذلك ممّا يطول تعديده ويشقّ استقصاؤه.

فقال: هذا كلام ظريف، وما خلت أنّ ابن يعيش مع فدامته، ووخامته يسحب ذيله في هذا المكان، ويجري جواده بهذا العنان.

قلت له: إنّ له مع هذه الحال مرامي بعيدة، ومقاصد عالية، وأطرافا من المعاني إذا اعتلقها دلّ عليها، إما بالبيان الشافي، وإمّا بما يكون طريقا إلى الوهم الصافي.

وقلت: لقد مرّ له اليوم شيء جرى بينه وبين أبي الخير اليهوديّ استفيد منه.

قال: وما ذاك؟ انثر علينا درر هذه الطائفة التي نميل إليها بالاعتقاد وإن كنّا نقع دونها بالاجتهاد، ونسأل الله أن يرحم ضعفنا الذي منه بدئنا ويبدّلنا قوة بها نجد قربنا في آخرنا.

قلت: ذكر أنّ العقل لا غناء له في الأشياء الّتي تغلب عليها الحيلولة والسّيلان والتطوّل، كما أنّ الحس لا ينفذ في الأمور الّتي لا تطوّر لها بالحيلولة والتطوّل، ولذلك عرفت الحكمة في الكائنات الفاشيات، وخفيت العلل والأسباب في بدوّها وخفيتها وتبدّدها وتآلفها، لكنّ هذا الفرق والخفاء مسلّمان للقدرة المستعلية والمشيئة النافذة.

قال: ولهذا الترتيب سرّ به حسن هذا النعت، وإليه انتهى هذا البحث وذلك أنّ خفاء ما خفي بحقّ الأوّل ألحق، وبدوّ ما بدا من نصيب أطلق للّذي لا يحتمل غير هذا الثقل، ولو خفّف عنه هذا للحق الإنسان البهائم، ولو ثقل عليه هذا للحق الملائكة، فكان حينئذ لا يكون إنسانا، وقد وجب في الأصل أن يكون إنسانا كاملا بالنّصب والدّأب، ويمتعض من أن تكون صورة الإنسان عنده معارة، لأنه في الحقيقة حيوان غير ناطق، بل يجتهد بسعيه وكدحه أن يصير إنسانا فاضلا، ويكون في فضله وكماله ملكا، أعني بالمشاكهة الإراديّة لا بالمشاكهة النوعيّة.

قال: وغاية الحكمة منها للمباشرين لها أنّ المعرفة تقف على حيلولتها ولسيلانها فقط، لا على تصفّح أجزائها، لأنّ الترتيب فيها يستحيل مع الزمان.

<<  <   >  >>