للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ولا يجوز في الحكمة أن يقع الاتفاق فيما جرى مجرى المذاهب والأديان، ألا ترى أنّ الاتّفاق لم يحصل في تفضيل أمة على أمّة، ولا في تفضيل بلد على بلد، ولا في تقديم رجل على رجل، ولو لم يكن في هذا الأمر إلا التّعصّب واللّجاج والهوى والمحك والذّهاب مع السابق إلى النفس، والموافق للمزاج، والخفيف على الطّباع، والمالك للقلب، لكان كافيا بالغا بالإنسان كلّ مبلغ.

وشيخنا أبو سليمان يقول كثيرا: إنّ الدّين موضوع على القبول والتّسليم، والمبالغة في التّعظيم، وليس فيه «لم» و «لا» و «كيف» إلا بقدر ما يؤكّد أصله ويشدّ أزره، وينفي عارض السّوء عنه، لأن ما زاد على هذا يوهن الأصل بالشكّ، ويقدح في الفرع بالتّهمة.

قال: وهذا لا يخصّ دينا دون دين، ولا مقالة دون مقالة، ولا نحلة دون نحلة، بل هو سار في كلّ شيء في كلّ حال في كلّ زمان، وكلّ من حاول رفع هذا فقد حاول رفع الفطرة ونفي الطّباع وقلب الأصل، وعكس الأمر، وهذا غير مستطاع ولا ممكن، وقد قيل: «إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون» .

وقال لنا القاضي أبو حامد المرورّوذيّ: أنا منذ أربعين سنة أجتهد مع أصحابنا البصريّين في أن أصحّح عندهم أن بغداد أطيب من البصرة، وأنا اليوم في كلامي معهم كما كنت في أوّل كلامي لهم، وكذلك حالهم معي، فهذا هذا. أنظر إلى فضل ومرعوش- وهما من سقط النّاس وسفلتهم- كيف لهج الناس بهما وبالتعصّب لهما حتى صار جميع من ببغداد إما مرعوشيّا وإمّا فضليّا.

ولقد اجتاز ابن معروف وهو على قضاء القضاة بباب الطاق فتعلّق بعض هؤلاء المجّان بلجام بغلته، وقال: أيّها القاضي، عرّفنا، أنت مرعوشيّ أم فضليّ، فتحيّر وعرف ما تحت هذه الكلمة من السّفه والفتنة، وأنّ التخلّص بالجواب الرّفيق أجدى عليه من العنف والخرق وإظهار السّطوة، فالتفت إلى الحرّانيّ- وكان معه وهو من الشهود- فقال: يا أبا القاسم، نحن في محلّة من؟ قال: في محلّة مرعوش، فقال ابن معروف: كذلك نحن- عافاك الله- من أصحاب محلّتنا لا نختار على اختيارهم، ولا نتميّز فيهم. فقال العيّار: امش أيّها القاضي في ستر الله، مثلك من تعصّب للجيران.

فقال الوزير- أحسن الله توفيقه-: هذا كلّه تعصّب وهوى وتماحك وتكلّف. قيل:

هذا وإن كان هكذا فهو داخل فيما عداه من حديث الدّين والمذهب والصّناعة والبلد.

قال أبو سليمان: ولمصلحة عامّة نهي عن المراء والجدل في الدّين على عادة المتكلّمين، الذين يزعمون أنّهم ينصرون الدّين، وهم في غاية العداوة للإسلام والمسلمين، وأبعد الناس من الطّمأنينة واليقين.

<<  <   >  >>