للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ب- فرانسيس بيكون ١٥٦١-١٦٢٦:

فيلسوف إنجليزي، صرف كل جهوده إلى إحياء وتجديد الفلسفة والعلوم بالطرق الاختيارية. كانت الموضوعات العشر التي كتبها حوالي ١٥٩٧ أول أثر أدبي في اللغة الانجليزية، وهي أقرب إلى الأمثال والحكم، قل فيها العنصر الشخصي، وصور التجارب الخاصة، وفي ١٦١٢ أصدر مجموعة من الموضوعات بلغت ثمانية وثلاثين، تعتبر بداية اتجاه جديد في القالب والمحتوى، اعتمد في القالب على حسن التقسيم وجمال التنسيق، وفي المحتوى انصرف عن الحكم المركزة، والأقوال المأثورة، ومال إلى الحديث المرسل المتميز بالحيوية والألفة.

وفي ١٦٢٥ أصدر المجموعة الثانية في ثمانية وخمسين موضوعا، تضم المقالات السابقة، بدت فيها مظاهر التطور واضحة، وجال النظر فيها من وقت لآخر منقحا ومهذبا حتى أصبحت كتاباته واضحة المعالم، وفنه يتسم بالتنسيق، تتميز بالإطالة في الموضوعات وتحليلها، وظهر أسلوبه في حلة قشيبة، وأصبح أمتن نسجا، وأرق تعبيرا، وأوسع خيالا، وأكثر زخرفة، وأحسن تنسيقا، مع الاعتماد على الآراء الشخصية، والأحداث التاريخية، والتجارب الخاصة في التفسير والتوضيح والاستدلال بشتى البراهين.

ويوضح العقاد الفرق بين مقالات "بيكون" في هذين الطورين فيقول: "مقالات بيكون في بواكيرها كانت طرائف من المتفرقات الفكرية تجمعها سلسلة الموضوع والعنوان في إيجاز شديد، غير محتفل فيه بالتفصيل والتوضيح، كأنما يكتبها الكاتب لنفسه، فهو غني عن تفصيلها؛ لعلمه بمقصده منها حين الحاجة إليها، أو كأنما هو يكتبها بلغة الاختزال الفكري التي يفهمها المرتاضون على قراءة هذا الضرب من الاختزال، ويجهد في شرحها غير المرتاضين عليه، ثم جنحت في صيغتها الأخيرة إلى التسمح بعد التزمت، والسخاء بعد الضنانة، والتفسير بعد الإيماء والاقتضاب، وازدانت في هذه الصيغة بأجمل ما يزدان به النثر البليغ من براعة التشبيه، وطرافة الأمثولة، واختيار الشواهد من المأثورات اللاتينية واليونانية في سياقها الملائم، وموقعها المنتظر"١.

ويرجع تطور فرانسيس بيكون في كتاباته إلى عوامل أهمها: رغبته الصادقة في تعقيد علم الأخلاق؛ ولذلك نراه يكتب رسائل تنفر من الشهوات، وترغب في الفضائل، وتكشف عن النماذج الأخلاقية. ونجح في مقاله "الحسد" و"والتظاهر والرياء" ومنها اقتباسه من الكتابات التي تحمل طابع الأخلاق، ومنها تأثره بمقالات "مونتين" التي عرفها المجتمع الأدبي الإنجليزي.

ومن ثم اكتسب أسلوب "بيكون" قيما جمالية لم يعرفها من قبل، وبعد عن الحكم ومال إلى الحديث المباشر المسهب المدعم بتجاربه الذاتية، وشواهد التاريخ، فتوفر له من مقومات الأدب الرفيع ما جعله يأتي بالجديد والطارف في هذا الفن الناشئ.


١ راجع: فرانسيس بيكون ص٨٥، ٨٦.

<<  <   >  >>