للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الطور الثاني]

نعني به الفترة التي شارك السوريون والمصريون فيها، مع بداية الثورة الاجتماعية والفكرية المتأثرة بدعوة جمال الدين الأفغاني وتلاميذه إلى إصلاح الحياة الاجتماعية والسياسية والدينية، وارتبطت بنشأة الحزب الوطني الأول ١٨٧٩، والأحداث التي مهدت للثورة العرابية، وغير ذلك مما تقل اليقظة العقلية من السياسة إلى المجتمع، وسرت بدورها إلى عالم الفكر والثقافة والعلم والأدب.

وأبرز كتاب هذا الطور أديب إسحاق ١٨٨٥، وعبد الله فكري ١٨٨٩، وعلي مبارك ١٨٩٣، وعبد الله النديم ١٨٩٦، وجمال الدين الأفغاني ١٨٩٧، وعبد الرحمن الكواكبي ١٩٠٢، ومحمد عبده ١٩٠٦، وقاسم أمين ١٩٠٨، كتب هؤلاء في الأهرام ١٨٧٥، ومصر ١٨٧٧، والتجارة ١٨٧٨، والفلاح والحقوق وغيرها من الصحف التي برزت خلال هذا الطور.

عالج كتاب هذا الطور شئون السياسة، وأحوال المجتمع، وإصلاح التعليم، وفي هذا الطور نشأ المقال بألوانه الثلاثة: السياسي على يد أديب إسحاق، والاجتماعي على يد عبد الرحمن الكواكبي، والديني على يد الشيخ محمد عبده. وتناول المقال المشكلات المتصلة بالشعب، وبدأ يتحلل من قيود الأسلوب، وكان لهذا التحول وانتقال الكتابة من الفردية إلى الموضوعية أثره البالغ في تعدد الأغراض وجودة الأساليب.

وهذا نموذج من مقالات عبد الله النديم التي اهتم فيها بتثقيف الشعب ومعالجة قضايا وطنه السياسية، ومشاكله الاجتماعية، وتحرر خلاله من السجع ولفائفه، والبديع وزخارفه، يقول النديم في مقاله "عربي تفرنج":

"ولد لبعض الفلاحين ولد، فسماه زعيط، وتركه يلعب في التراب، وينام في الوحل، حتى صار يقدر على تسريح الجاموسة، فسرحه مع البهائم إلى الغيط، يسوق الساقية ويحول الماء، وكان يعطيه كل يوم أربع حندويلات، وأربعة أمخاخ بصل، وفي العيد كان يقدم اليخني ليمنعه يأكل اللحم بالبصل، وبينما هو يسوق الساقية، وأبوه جالس عنده، مر بهما أحد التجار، فقال لأبيه: لو أرسلت ابنك إلى المدرسة ليتعلم ويصير إنسانا، فأخذه وسلمه إلى المدرسة، فلما أتم العلوم الابتدائية أرسلته الحكومة إلى أوربا، وبعد أربع سنين ركب الوابور، وجاء عائدا إلى بلاده، فمن فرح أبيه حضر إلى الإسكندرية، ووقف بمصيف الجمرك ينتظره. فلما خرج من "الفلوكة" قرب أبوه ليحتضنه ويقبله، شأن الوالد المحب لولده، فدفعه في صدره".

يسخر النديم من الفتى الذي ملأه الغرور والكبر، فلم يقبل أن يحتضنه والده، ونسي تقاليد بلاده، كل ذلك بأسلوب ساخر، يسوده الحوار، وتشيع العامية فيه كي يفهم أهل الريف الذين يخاطبهم.

وهكذا أثمرت جهود بعض الكتاب في العودة إلى التوفيق بين الأساليب الموروثة، وحاجات العصر الذي أطلوا منه على عالم جديد، فأنشئوا المقالات بلغة أصلح للكتابة الصحفية، مؤثرين بلاغة العبارة، واختيار اللفظ، وسلامة التركيب.

<<  <   >  >>