للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[اتصال الرواية بالأدب]

ولقد جرت العرب في إسلامها على مثل عادتها في جاهليتها؛ لأن الإسلام لم يهدم مما قبله إلا ما كان شركًا أو داعية إلى الشرك، فاستمرت الرواية للشعر والخبر والنسب والأيام والمقامات ونحوها، مما أثروه عن أسلافهم في أعقاب الجاهلية، بل توسعوا في بعض هذه الفنون أول عهدهم بالإسلام، لمعالجة الحجة في الرد على شعراء المشركين ممن كانوا يهاجون شعراء النبي صلى الله عليه وسلم، كما سنفصله في موضعه -وقد علموا أنهم لا يؤلون من مفاخر العرب وحكمتها إلا إلى ما يحفظونه عنهم؛ فإذا هم أغفلوا رواية ذلك والتعلق به وارتبط ما بقي منه، لم يأمنوا أن يذهب على من بعدهم، فيفوت الناس علم ظهرت حاجتهم إليه بعد ذلك في تفسير القرآن والحديث.

وكان أحفظ الصحابة للأنساب أبو بكر الصديق، وأرواهم للشعر عمر بن الخطاب؛ أما أبو بكر فخبره مع دغفل النسابة مشهور، وسنومئ إليه، وأما عمر فقد نقل المبرد في "الكامل" في سياق المناظرة التي جرت بين ابن عباس ونافع بن الأزرق من زعماء الأزارقة "قتله المهلب سنة ٦٥هـ وسنأتي على ذكر هذه المناظرة في باب القول في القرآن" أن ابن عباس بعد أن مل من مساءلة نافع وأظهر الضجر، طلع عمر بن أبي ربيعة عليه فأنشده من شعره قصيدة في ثمانين بيتًا، فحفظها ابن عباس ولم

يكن سمعها إلا ساعته تلك، وقال: لو شئت أن أرددها لرددتها، ثم أنشدها١؛ فقال له نافع: ما رأيت أروى منك قط! قال ابن عباس: ما رأيت أروى من عمر ولا أعلم من علي. وكان عمر مع ذلك غاية من الغايات في الأنساب وقيافة الناس، وستعلم شرح ذلك في بابه.

بيد أن كل ما حفظوه وتناقلوه لم يدون منه شيء ولم يكن فيه إسناد؛ لأنه لا خطر ولا يتعلق به أمر من أمور الدين، بل هو لا يعدو أن يكون أدبًا ونافلة وبابًا من التطوع؛ ومضوا على ذلك وهم يضيفون إليه رواية أشعار المخضرمين -الذين أدركوا الجاهلية والإسلام- حتى انقضى عهد الراشدين، دون أن تكتب قصيدة أو يدون خبر من أخبار العرب، وهم قد تركوا ذلك في السنة كما علمت, فلأن يتركوه في هذا ونحوه أولى.


١ وقد ذكر صاحب الأغاني هذا الخبر من رواية عمر بن شبة. ثم قال: وفي غير رواية عمر بن شبة أن ابن عباس أنشدها من أولها إلى آخرها، ثم أنشدها من آخرها إلى أولها مقلوبة، أو ما سمعها قط إلا تلك المرة صفحًا، فقال له بعضهم: ما رأيت أذكى منك قط! فقال: لكنني ما رأيت قط أذكى من علي بن أبي طالب عليه السلام!

<<  <  ج: ص:  >  >>