للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[حفظ الأسانيد في الأدب]

ذلك شأن الإسناد في الحديث وعنايتهم بحفظه، أما الإسناد في الأدب فلا يراد منه إلا توثيق الرواية وإثبات صحتها، وضمان عهدتها، لا أن يطلب الرواية بذكر الإسناد حكاية ما يرويه على أنه معدل، وإثبات ما يسنده على أنه إلى مقنع؛ فإن اللغة ترجع إلى أقيسة معروفة، وإن ما شذ عن هذه الأقيسة موضوع قطعًا إلا أن يحمل عن الثقة، أو ينفرد به أهل الكفاية فيوردونه على أنه من الأفراد والنوادر؛ وإن الشعر والخبر قد فشا فيهما الكذب والتوليد منذ القرن الأول، ونشأ كثيرون من الرواة يشدون من العلوم الموضوعة، وينفقون من الأخبار المكذوبة، ويموهون بمزج هذه الأمور على الناس، ويخترعون الأشعار الكثرة عند مناقلة الكلام وموازنة الأمور؛ ومع ذلك فلم يعن بأمرهم أهل التفتيش والتحقيق من العلماء، إلا حيث يكون الخبر أو الشعر مظنة الشاهد وموضع المثل، فهناك يضربون دونه الإسناد؛ مخافة أن يجري في شيء من العلوم التي هي قوام الأصليين من الكتاب والسنة؛ فحيث وجدت المعنى الديني تجد التثبت والتحقيق الذي لا مساغ فيه إلى خطرات الظنون، فضلًا عن فَرَطات الأوهام؛ ومتى انتفى هذا المعنى عن شيء فأمره عندهم بحساب ما يدور عليه, وإذا أردت أن تعرف مصداق ذلك فاعتبره بما وضعه العلماء من ترجمة الإمام البخاري ونقد كتابه؛ فما رأينا في الإسلام كتابًا استوفى شروط النقد الصحيح كلها كهذا الكتاب١، ولو أنهم تناولوا ببعض تلك العناية كبار الرواة وفحول الشعراء ونوابغ الكتاب، لكانت العربية اليوم أغنى اللغات آدابًا وأمتنها أسبابًا وأوسعها في تاريخ الآداب كتابًا؛ ولكن الأدباء لم يجنوا من ذلك إلا ثمرة المراء ونكد الخلاف، ولم يحصلوا إلا الأشياء القليلة مما يتعلق باللغة؛ لأنها موضع الشاهد؛ وذلك من أمرهم كما أومأنا إليه، بل كان أهل الشعر منهم يرون أنهم أضاعوا العمر في الباطل، ولم يحلوا من ثواب الأعمال بطائل٢.

والأسانيد في الأدب قصيرة؛ لأن الرواة ما زالوا يحملون عن العرب قرونًا بعد الإسلام على ما سبق لنا بيانه في الباب الأول، ومن حمل شيئًا فهو سنده؛ ثم إن الرواية قد درست بعد القرن الخامس على أبعد الظن، ولم يبق إلا بعض الأسانيد العلمية كما سيجيء، فكان عمر الإسناد ثلاثة قرون على الأكثر؛ دع عنك ما كان من شأنهم في هذا الإسناد؛ فإن الصدور منهم يكتفون بالنسبة غالبًا -وهي بعض طرق الرواية كما ستعرفه- فيقولون: روينا عن فلان، وحُدثنا عن فلان، ويكون بين الراوي والمروي عنه جيلان وأكثر.

بيد أن كل ذلك لا يدفع الثقة بما يرويه أهل الضبط والتحصيل منهم، وهم قوم معدودون يعرفونهم بالعدالة؛ ثم لأنهم يأخذون عن الثقات؛ ولأن أكثر ما يروونه لا وجه للخلاف فيه، وإذا اختلفوا في شيء فلا يكون ذلك قادحًا فيهم؛ لأن مظنة الخلاف إنما تكون في ضعف الرواية أو الراوية, وسيأتي شرح ذلك فيما يأتي.


١ قالوا إن الذين سمعوا كتاب البخاري من مؤلفه رواية، تسعون ألف رجل، كلهم روى عنه وأسند إليه؛ فتأمل!
٢ سيأتي لهذا المعنى مزيد من البيان في موضع آخر.

<<  <  ج: ص:  >  >>