للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الأخذ عن العرب]

كان "علم العرب" في الجاهلية وصدر الإسلام مما يعرف به النسابون وأهل الأخبار؛ وقد أشرنا إلى ذلك في بعض ما مر، فلما رجعوا إلى الشعر والتمسوه للشاهد والمثل، كان ذلك بدء تاريخ الأخذ عن العرب للقصد العلمي الذي نحن في سبيل الكتابة عنه، بيد أن اللسان يومئذ كان لا يزال أقرب إلى عهده من الفطرة، فلم يأخذوا عن العرب شيئًا يسمونه اللغة، إذ كانت هذه التسمية لم تجتمع بعد أسبابها كما عرفت، فكان علم العرب مقصورًا على النسب والخبر والشعر، وأكثر من يقوم عليها النسابون والخطباء وبعض رواة الحديث؛ فلما اشتهر علم العربية بعد أبي الأسود، وكان القائمون به ولده عطاء، وعنبسة الفيل، وميمونًا الأقرن، ونصر بن عاصم وعبد الرحمن بن هرمز، ويحيى بن يعمر العدواني، وهو آخرهم وأفصحهم، وأعربهم، توفي سنة ١٢٩هـ بعد أن بعج العربية، وفلق بها تفليقًا؛ مست الحاجة في عصر تلك الطبقة إلى تتبع اللغات والسماع من العرب، وخاصة بعد أن قامت المناظرات بين أهل الطبقة التي أخذت عن هؤلاء، حين ابتدءوا يجردون القياس ويعللون النحويين ويعتبرون به كلام العرب؛ وأول من علل النحو فيما يقال، ابن أبي إسحاق الحضرمي المتوفى سنة ١١٧هـ وهو أعلم أهل البصرة وأنقلهم، وكان هو وعيسى بن عمر الثقفي "رأس المتقعرين" يطعنان على العرب، وكان معهما أبو عمرو بن العلاء شيخ الرواة، وهو من المشهورين في تجريد القياس، ولكنه كان أشد تسليمًا للعرب، وقد ناظره ابن أبي إسحاق فغلبه بالهمز، إلا أن أبا عمرو طالت مدته فكان أكثر طلبًا لكلام العرب ولغاتها وغريبها، حتى تميز بذلك، وهو قد أخذ النحو عن نصر بن عاصم صاحب أبي الأسود.

فتلك هي العلة في أخذهم عن العرب، ولم يكونوا يأخذون عنهم قبل ذلك، وأنت تعتبر مصداق هذا أنك لا تجد رجلًا مما عنوا بالسماع من العرب طالبًا لمعرفة كلامها ولغاتها؛ وانتهت إليهم أسانيد الرواة، إلا في أواخر القرن الأول وأوائل الثاني؛ ومن أشهرهم أبو عمرو الشيباني، عاش ١٢٠ سنة، وسمع النبي صلى الله عليه وسلم في صغره؛ وقتادة بن دعامة السدوسي، توفي سنة ١١٧هـ؛ والشعبي سنة ١٠٥هـ؛ وابن أبي إسحاق، وعيسى بن عمر، وأبان بن تغلب، سنة ١١٤هـ؛ وأبو عمرو بن العلاء؛ وسائر من تجدهم من متقدمي الرواة.

ثم لما تفرعت المذاهب واشتد الخلاف بين أهل الطبقة الثالثة التي أخذت عن أولئك، وأصاب ذلك ضعف اللغة في الحضر ورقة جوانبها، ورأى العلماء أن أكثر اللغة مما لا يطرد فيه القياس، لتداخل لغات العرب بعضها في بعض, وأن أكبر العلم بهذه اللغة هو العلم بنوادرها وغريبها, صار لا بد من استقصاء ذلك في مناطق العرب، واستغراقه إلى أطراف البوادي، وتصفح تلك الجهات فيمن لا

<<  <  ج: ص:  >  >>