للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[شعر الجن وأخبارها]

والقصاصون إنما قلدوا في ذلك الأعراب وذهبوا مذاهبهم، فللأعراب شعر كثير يزعمونه للجن ويعقدون له الأخبار، وقد تناقله عنهم الرواة وتظرفوا به في الأحاديث، وأمثلته كثيرة.

وكان أبو إسحاق المتكلم، من أصحاب الجاحظ، يقول في الذي تذكر الأعراب من عزيف الجان وتغول الغيلان: "أصل هذا الأمر وابتداؤه أن القوم لما نزلوا ببلاد الوحش عملت فيهم الوحشة، ومن انفرد وطال مقامه في الفلاة والخلاء والبعد عن الإنس، استوحش، ولا سيما مع قلة الاشتغال والمذاكرين؛ والوحدة لا تقطع أيامهم إلا بالمنى وبالتفكير؛ والفكر ربما كان من أسباب الوسوسة، وقد ابتلي بذلك غير حاسب.... وخبرني الأعمش أنه فكر في مسألة فأنكر أهله عقله حتى حموه "من الحمية" وداووه؛ وقد عرض ذلك لكثير من الهند، وإذا استوحش الإنسان مثل له الشيء الصغير في صورة الكبير، وارتاب وتفرق ذهنه وانتفضت أخلاطه، فيرى ما لا يرى ويسمع ما لا يسمع، ويتوهم على الشيء الصغير الحقير أنه عظيم جليل، ثم جعلوا ما تصور لهم من ذلك شعرًا تناشدوه، وأحاديث توارثوها فازدادوا بذلك إيمانًا ونشأ عليه الناشئ وربي به الطفل، فصار أحدهم حين يتوسط الفيافي وتشتمل عليه الغيطان في الليالي الخنادس، فعند أول وحشة أو فزعة وعند صياح يوم ومجاوبة صدى، تجده وقد رأى كل باطل وتوهم كل زور، وربما كان في الجنس وأصل الطبيعة نفاجًا كذابًا وصاحب تشنيع وتهويل، فيقول في ذلك من الشعر على حسب هذه الصفة، فعند ذلك يقول: رأيت الغيلان، وكلمت السعلاة؛ ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: قتلتها! ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: رافقتها! ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول: تزوجتها.... ومما زادهم في هذا الباب وأغراهم به ومد لهم فيه، أنهم ليس يلقون بهذه الأشعار وبهذه الأخبار إلا أعرابيا مثلهم، وإلا غبيا لم يأخذ نفسه قط بتمييز ما يوجب التكذيب أو التصديق أو الشك، ولم يسلك سبيل التوقف والتثبت في هذه الأجناس قط؛ وأما أن يلقوا راوية شعر أو صاحب خبر، فالرواة عندهم كلما كان الأعرابي أكذب في شعره كان أظرف عندهم، وصارت روايته أغلب ومضاحيك حديثه أكثر! ".

والأمر قريب مما قاله أبو إسحاق؛ فإن أخبار الجن لا تعرف إلا عن رجل من الأعراب أو رجل من الرواة الذي يقصون للعامة وأشباه العامة، وقد يأتي القليل من ذلك عن الراوية الثقة يريد به الإغراب في حديث إن جاء به، وشعر إن أنشده، ليدير الكلام على روعة توكد معناه وتجعله ظريفًا

<<  <  ج: ص:  >  >>