للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[عنايتهم بالرواة]

وكان الرواة مَحَط الأعباء في الرحلة، وإليهم المرجع في الغريب والشعر والخبر والنسب، وقد انفردوا بالقيام على هذه العلوم أيام بني أمية، والدولة يومئذ دولة العرب، وهم لا يزالون حيال آبائهم وعلى إرث منهم؛ فلم يكن إلا أن تنفق سوق الرواة ويقبل في الدهر أمرهم، وينبه في الناس شأنهم، ويجد كل واحد منهم ما يجده الحظيظ في بضاعته، والمحتاج إليه في صناعته؛ ولم يأت ذلك من قِبَل الخلفاء وحدهم، ولكن الشأن كان في أهل الأمصار من الأمراء فمن دونهم؛ فإنهم صرفوا إلى الرواة وجوه المطالب، وقصروا عليهم الرغبات؛ لأنهم الوصلة بينهم وبين أوليتهم من العرب، بما يقصون من أخبارهم، ويروون من أشعارهم، وينقلون من آثارهم؛ وبهذه وما إليها كانت تلتئم أطراف المجالس، وتنفصل جهات الأحاديث، وتتشعب مذاهب السمر؛ وفوق ذلك فإن أكثر الرواة جمعوا إلى علومهم تلك رواية الحديث وتفسير غريبه والفتيا في مشتبه القرآن والقول في السير ونحوها، وهي من أغراض الناس جميعًا.

أما الخلفاء من لدن معاوية إلى عبد الملك بن مروان، فهؤلاء اقتصروا على أهل الشعر والنسب والخبر؛ لأن أمر اللغة لم يكن بدأ في أيامهم، ولأن ذلك كان هو علم العرب يومئذ؛ وكان معاوية يرمي

إلى اجتذابهم حوله وتألف قلوبهم عليه، وإلى التخذيل عن أهل الحق في الخلافة من رجال هاشم وفتيان قريش؛ وكان يأتي كل مأتى لانتظام أمر الملك والدولة، حتى لو عرف أنه يستكثر بالزنج لوطأ الحيلة إليهم فبالغ في إيثار الشعر والنسب والإفضال عليهم، حتى تحدث الناس بذلك، فأرسل في ألسنتهم رسائله السياسية من حيث لا يدرون؛ وكان يحث على رواية الشعر، وينتقص من لا يروي منه، حتى إنه كتب إلى زياد "الذي ادعى أبا سفيان" في إشخاص ابنه عبيد الله، وقد علم أنه يتورع عن الشعر، فأوفده زياد إليه. وأقبل معاوية يسأله، فلما سأله عن شيء إلا أنفذه، حتى سأله عن الشعر، فلم يعرف منه شيئًا، فقال: ما منعك من روايته؟ قال: كرهت أن أجمع كلام الله وكلام الشيطان في صدري! فقال معاوية: أعزب؛ والله لقد وضعت رجلي في الركاب يوم صفين مرارًا ما يمنعني من الانهزام إلا أبيات ابن الإطنابة حيث يقول:

أبت لي همتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمد بالثمن الربيح

وإعطائي على الإعدام مالي ... وإقدامي على البطل المشيح

وقولي كلما جشأت وحاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي

ولا نرى هذا إلا من دهاء معاوية وحذقه في سياسة الأمور ومداورتها؛ وإلا فمتى كان الإقرار بالنقيصة من سياسة الملوك إذا لم تكن قد استبطنت غرضًا من الأغراض لا ينكشف حتى يحيلها إلى محمدة.

وقد رمى خلفاؤه من قوسه ونزعوا في وتره، وهو كان يبصرهم؛ حتى كان لا يقطع أمرًا دون

<<  <  ج: ص:  >  >>