للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[القرآن والعلوم]

وللقرآن وجه اجتماعي من حيث تأثيره في العقل الإنساني، وهو معجزة التاريخ العربي خاصة، ثم هو بآثاره النامية معجزة أصلية في تاريخ العلم كله على بسيط هذه الأرض، من لدن ظهر الإسلام إلى ما شاء الله، لا يذهب بحقها اليوم أنها لم تكن قبل إلا سببًا، فإن في الحق ما يسع الأشياء وأسبابها جميعًا.

وليس يرتاب عاقل -ممن يتدبرون تاريخ العلم الحديث، ويستقصون في أسباب نشأته، ويتشبثون عند الخاطر من ذلك إذا أقدموا عليه؛ وعند الرأي إذا قطعوا به- أنه لو لم يكن القرآن الكريم لكان العالم اليوم غير ما هو في كل ما يستطيل به، وفي تقدمه وانبساط ظل العقل فيه وقيامه على أرجائه، وفي نموه واستبحار عمرانه، فإنما كان القرآن أصل النهضة الإسلامية وهذه كانت على التحقيق هي الوسيلة في استبقاء علوم الأولين وتهذيبها وتصفيتها، وإطلاق العقل فيما شاء أن يرتع منها١، وأخذه على ذلك بالبحث والنظر والاستدلال والاستنباط، وتوفير مادة الروية عليه بما كان سببًا في طلب العلم للعمل، ومزاولة هذا لذاك، إلى صفات أخرى ليس هذا موضع بسطها -وإن لها لموضعًا متى انتهينا إلى بابها من الكتاب- وهذا كله كان أساس التاريخ العلمي في أوروبا. فما من


١ كان العلم عند الأمم التي انطوت قبل الإسلام مما لا يستطيعه إلا طبقات تمتاز به وتبينها الأمم من نفسها كما تبين سائر الطبقات الإلهية، من الملوك والكهنة والأبطال وغيرهم، الذين هم آلهة الأمة، أو أبناء آلهتها، أو الواسطة إلى الآلهة، فكانت العلوم من خصائص الكهنة عند المصريين والأشوريين، وفي أبناء الأشراف خاصة عند الغرناطيين والرومان، وفي طائفة من الشبان يقع عليهم الاختيار عند الهنود واليونان.
وكانت الدنيا القديمة على ذلك أو نحوه لا يصلح العلم إلا أن يكون نظرًا وجدالًا بين طائفة تتنافس فيه. لا لشيء إلا لأنه عملها وبه وزن أقدارها. ومتى كانت المنافسة ضيقة محصورة لا يشايع الناس عليها بعلم ولا يصوبون فيها ولا يخطئون فهي منافسة أهواء وشهوات ونزعات، يكون فيها العلم سلمًا تحطم منها تحت كل قدم ثقيلة درجة.
فلما جاء الإسلام حث على طلب العلم وعلى النظر والاعتبار والاستنتاج؛ وجعل شعار دعوته مثل قوله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} وقوله: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ؛ وترادفت أخبار الحث على طلب العلم فيه وفي كلام النبي صلى الله عليه وسلم حتى قال عليه الصلاة والسلام: "اطلبوا العلم ولو في الصين" فكان هذا سببًا في إطلاق الحرية العلمية للناس جميعًا، وخاصة أهل الأخلاق منهم الذين هم الطبقة الوسطى في كل أمة، والذين بهم قوام الأمة: إذ يحملون ما فوقهم ويمنعون عما تحتهم، وبذلك نضجت المنافسات العلمية وآتت ثمارها، وأفضى الأمر في العلوم إلى ما وقع من الامتحان والاختبار؛ ثم الاختراع والاستنتاج.
وهذا كله لم يعرفه أساتذة اليوم "الأوروبيون" إلا في القرن السادس عشر للميلاد؛ وهم قد أخذوه وأخذوا معه كثيرًا من الفضائل الاجتماعية عن المسلمين وعلمائهم، لا يكابر في ذلك منصفوهم وذوو الأحلام منهم، وإلى الله ترجع الأمور.

<<  <  ج: ص:  >  >>