للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إحكام منطقه صلى الله عليه وسلم]

قد رأيت فيما مر من صفته عليه الصلاة والسلام أنه ضليع الفم، يفتح الكلام ويختمه بأشداقه، وعلمت من معنى ذلك أنه كان يستعمل جميع فمه إذا تكلم، لا يقتصر على تحريك الشفتين فحسب. ولقد كانت العرب تتمادح بسعة الفم وتذم بصغره؛ لأن السعة أدل على امتلاء الكلام، وتحقيق الحروف وجهارة الأداء وإشباع ذلك في الجملة؛ ولأن طبيعة لغتهم ومخارج حروفها تقتضي هذا كله ولا تحسن في النطق إلا به، ولا تبلغ تمامها إلا أن يبلغ فيها، وهو بعد مزيتها الظاهرة في أفصح أساليبها، إذ كانت الفصاحة راحة إلى حسن الملاءمة بين الحروف باعتبار أصواتها ومخارجها، حتى تستوي في تأليفها على مذاهب الإيقاع اللغوي، كما بسطناه في كل موضع اقتضاه من هذا الكتاب.

وذلك أمر لم يكن علم أولئك القوم به على الهاجس والظن, أو المقاربة والتقدير إنما هو أساس منطقهم، وعتاد لغتهم، فكانوا سواء بالمعرفة به وفي الحاجة إليه، من استوفاه منهم اتسقت له الفضيلة البينة، ومن قصر فيه أخمله تقصيره حتى كأنما انطوت حقيقته العربية في فمه، أو كأنما أكل نفسه.. ولهم في كل ذلك من البيان والصوت أخبار وأشعار لا حاجة بنا إلى تمثلها وقصها.

وهذا الذي أومأنا إليه من أمرهم، هو السبب في أن كل من يتصافح في هذه العربية لا يعدو في جملة وسائله التي يستعين بها أن ينتحل سعة الشدق, وتهدل الشفة، ويبالغ في استعمال جميع فمه على كل وجه، يلتمس بذلك تحقيق الحروف، وجهارة البيان، وتفخيم الأداء، ووزن المخارج، إذ كانت هذه هي الدلائل الطبيعية على الفصاحة، وهو أمر لا يستقيم له إلا إذا مط الكلام ومضغ الحروف وتفيهق١ وكد حنجرته، وجعل كل شدق من شدقيه كأنه فم وحده، وذلك تكلف قد ذمه العرب وكرهوه، وذمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحذر منه٢؛ لأنه غير طبيعي فيمن يتكلفه، وهو كذلك مبالغة تأباها طبيعة اللغة، ولا تتفق مع أسبابها وعللها، إذ تحيل هذه اللغة إلى السماحة وتستغرقها بصناعة الصوت، وتنفي عنها طبيعة اللين والعذوبة، وتجمع عليها تعقيد الصوت، واستكراهه، وجسأته؛ وذلك كله في الذم والكراهة عندهم بسبيل من الصفات التي يعتدونها في عيوب المنطق، خلقة كالتمتمة والفأفأة والرتة ونحوها، مما أحصيناه في موضعه من الجزء الأول من تاريخ آداب العرب، أو تخلفًا، كالتنطع، والتمطق، والتفيهق٣، وما إليها.

فكانت محاسن هذا الباب في النبي صلى الله عليه وسلم طبيعة كما رأيت؛ لأنها عن أسباب طبيعية، وقد وصفوه


١ أي: تكلم من أقصى فمه.
٢ في الحديث الشريف: "أبغضكم إلي الثرثارون المتفيهقون". وكان عليه الصلاة والسلام يقول: "إياكم والتشادق"!
٣ مر آنفًا معنى التفيهق؛ أما التمطق: فهو ضم الشفتين ورفع اللسان إلى الغار الأعلى للفم. والتنطع: رمي اللسان إلى نطع الفم أي: إلى الغار الأعلى، وهو كالتمطق؛ إلا أن هذا أبلغ منه وأوسع.

<<  <  ج: ص:  >  >>