للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[المديح]

والمديح في فطرة الإنسان؛ لأنه إحساس الكبرياء التي هي عمود الإنسانية فيه، فإن الناس متفاضلون في القوة على الأعمال، وهم كذلك متفاضلون في حسهم لهذه القوة، فالواثق بنفسه الذاهب بها مذهب الغناء والاعتداد يجد في طبعه حركة واهتزازًا متى حققت له أعماله تلك الثقة، ولم يكذب وهمه في الاعتداد باطلًا؛ فذلك الاهتزاز هو إحساس الكبرياء الكامنة، فيه، وهو الذي يقصد تصويره بالفخر والمديح.

ولا تكون الكبرياء رذيلة ممقوتة إلا إذا جاوزت مقدارها الطبيعي الذي يكون دائمًا مكافئًا لحقيقة بالنفس، فهي حينئذ تنقلب صلفًا وتدخل في حكم الطباع المتكلفة ولا تحدث من الاهتزاز إلا وهمًا وغرورًا، كالذي يحدث من نشوة الخمر؛ فإذا هي زادت كانت عند العقلاء عربدة ... والمديح الذي يصور هذه الكبرياء الكاذبة لا بد أن يكون أكذب منها حتى تعوض عليه غرابة المبالغة شيئًا من رونق الحقيقة، وهو حينئذ صنعة وتكلف، ثم هو الذي عناه المتأخرون بقولهم: أعذب الشعر أكذبه.

فهذان شطرا المديح، لا يكون إلا في أحدهما، وقد ذهب العرب بالشطر الأول قبل أن تضعف أعصاب البداوة، فكان مديحهم فخرًا كله؛ لأنه أساس الطبيعة البدوية فضيلة الاعتماد على النفس، وهي التي تحدث الكبرياء الصحيحة، فلا تكاد تجد في شعر المهلهل أو امرئ القيس وطبقتهما مدحًا مبنيا على الملق والمداهنة وتصنع الأخلاق، وإن وجد شيء من ذلك قبل النابغة وزهير فهو مصنوع لا شك في صنعته وتوليده؛ وقد زعم الأصمعي "ص١٨٨ ج٢: الكامل" أن هذا البيت الذي يروى لمهلهل مصنوع محدث، وهو قوله:

أنبضوا معجس القسي وأبرقنا ... كما ترعد الفحول الفحولا

لأن فيه غلطًا لغويا، إذ لا يقال إلا رعد وبرق إذا أوعد وتهدد، وأرعدنا نحن وأبرقنا إذا دخلنا في الرعد والبرق، وليس الخطأ اللغوي وحده وهو الذي [يدل] * على الصنعة والتوليد، ولكن الخطأ الأخلاقي أمكن منه في باب الدلالة.

ولما وهنت أعصاب البداوة في بعض الشعراء بما وجدوا من مس الترف والنعيم، جعلوا يبتغون بالشعر المنالة والكسب، وبذلك حولوا شيئًا من مديحهم إلى الشطر الثاني، وقد ذكرنا منشأ ذلك في باب البديهة والارتجال؛ غير أن هذا التحول المرضي في المديح إنما كان يأخذ منه على التدريج في أول أمره، فبقي مديح زهير طبيعيا لم يحاول فيه صبغ الحقيقة بذلك اللون الأسود الذي يعطيها في الوهم منظر الاستعباد، ولذلك فضله عمر بن الخطاب بأنه كان لا يمدح الرجل إلا بما فيه؛ ولكن الذي سلم من أمر زهير لم يسلم من أمر النابغة؛ لأن زهيرًا كان لا يقول على الرغبة والطمع، وكان


* من زيادتنا.

<<  <  ج: ص:  >  >>