للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الشعر الوصفي]

الوصف جزء طبيعي من منطق الإنسان؛ لأن النفس محتاجة من أصل الفطرة إلى ما يكشف لها من الموجودات وما يكشف للموجودات منها، ولا يكون ذلك إلا بتمثيل الحقيقة وتأديتها إلى التصور في طريق من طرق السمع والبصر والفؤاد، أي: الحس المعنوي، فالأمم الطبيعية هي أصدق الأمم في الوصف طبيعة؛ لأنه سبيل الحقيقة في ألسنتها؛ ولأن حاجاتها الماسة إليه تجعل هذا الحس فيها أقرب إلى الكمال، فإذا أضفت إلى ذلك سعة العبارة ومطاوعة اللغة في التصريف -كما هو الشأن عند العرب- كان أجمع للحس وأبدع في تصوير الحقيقة بما تكثر اللغة من أصباغها ويجيد الحس في تأليف بينها وتكوين المناسبات الطبيعية التي تظهرها تلك الألوان المهيأة على حسب هذه المناسبات.

ولما كان الوصف الشعري هو أرقى ما يكون في اللغة من صناعة الأصباغ والتلوين، كان لا يقع إلا على الأشياء المركبة من ضروب المعاني، وكان أجوده لذلك ما استجمع أكثر المعاني التي يتركب منها الشيء الموصوف وأظهرها فيه وأولاها بتمثيل حقيقته، وهي الطريقة التي اتبعها العرب في أوصافها بدلالة الفطرة القوية والطبيعة الراقية، وقد كان هذا سببًا في تطبيقهم وصف الحيوان والنبات وغيرهما على علومهم ومعارفهم التي خلدوها بذلك في أشعارهم؛ لأن من أخص مزايا العلم التدقيق والاستقصاء، حتى قال الجاحظ: قل معنى سمعناه في باب معرفة الحيوان من الفلاسفة وقرأناه في كتب الأطباء والمتكلمين إلا ونحن قد وجدنا قريبًا منه في أشعار العرب والأعراب "ص٨٣ ج٣: الحيوان". فاستقصاء المعاني التي يتركب منها الموصوف طبيعة عامة في شعرائهم، ولكنهم يتفاوتون في قوة الاحتيال على إبراز هذه المعاني وابتداع الأساليب في تصويرها، وهذا هو موضع التفضيل بينهم؛ لأنه راجع إلى اختلاف القرائح خلقة واستعدادًا. وقد غفل أكثر الأدباء عن هذه الحقيقة، فتراهم يعجبون لما يرونه في بعض أشعارهم مما يكون سبيله الاحتيال على تصوير أجزاء الموصوف، ويعدونه خشونة وجفاء طبع، كالذي يذكرونه في وصف الناقة بأن هرا قد ثبت في دفها، كقول عنترة:

وكأنما ينأى بجانب دفها الـ ... ـوحشي من هزج العشي مؤوم

هر جنيب كلما عطفت له ... غضبى اتقاها باليدين وبالفم

وهم إنما أرادوا صفة الناقة بأنها رواغة شديدة التفزع لفرط نشاطها ومرحها، فجاءوا بهذا المعنى الذي تلزم عنه تلك الصفة، وخصوا الهر؛ لأنه يجمع العض بالناب والمحض بالمخالب، فيكون ذلك أبلغ فيما أرادوه.

ومنه قول أوس بن حجر؛ وقد جاء بأكثر من ذلك، يريد أنها لا تستقر:

كأن هرا جنيبًا تحت غرضتها ... والتف ديك بحقويها وخنزير

وقول الشماخ:

كأن ابن آوى موثق تحت غرضها ... إذا هو لم يكلم بنابيه ظفرا

<<  <  ج: ص:  >  >>