للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[تشبيهاته]

قد قلنا في استعارات امرئ القيس، وترسمنا آثاره في ذلك المذهب بما يؤدي إلى حكم في الصناعة، ويكشف عن غاية من غايات الرجل؛ ونحن وإن لم نكن أفضنا في ذلك، إلا أن هذا المنزع قريب، ربما أغني في بعضه المثال الواحد؛ إذ كان امرؤ القيس مبتدئًا في شيء ومبتدعًا في شيء وجهده في جميع ذلك أن تحصي له الكلمات المعدودة، وهي لا تحتمل الإفاضة على تقسيم الكلام إلى فصول وتمييز بعضها من بعض. ثم هو إنما كان شاعرًا من شعراء الفطرة، يعرض للسانه القول كما يعرض لعينه الوحش؛ فينطلق كلاهما على نفس واحد يصنع القليل ولا ينقح الجملة، فكان ما يجيء في كلامه من بدائع الصنعة هو الدليل على فضل قوته التي تغمر فؤاده وتصرفه إلى مشايعة طبيعة اللغة في النمو، ولو صرفت تلك القوة إلى الصنعة التي [يعرق] فيها الكلام من كثرة تقليبه، لكان للكلام في شعره مذهب آخر، وأنت قد تجد للمتنبي بيتًا واحدًا لو جمع اختلاف العلماء فيه لزاد على اختلافهم في جميع شعر امرئ القيس.

أما تشبيهاته فهي بجملتها ترمي إلى غرض واحد، وهو تصوير الحقيقة تصويرًا غير ملون، وله فيها طرائق بديعة هو أول من ابتكرها، كتشبيه الإضافة في قوله:

له أيطلا ظبي وساقا نعامة ... وإرخاء سرحان وتقريب تتفل

فقد جاء به -كما ترى- حتى جعله تحقيقًا، وفيه أيضًا تشبيهه أربعة بأربعة، وقد زعم الفرزدق أنه أكمل بيت قالته العرب، أو قال: أجمع بيت "ص٢١ ج٢: العمدة" وهو أول من فتح هذا الباب "ص١٩٩ ج١: العمدة".

وقد يجيء بعضها مخدجًا غير تام الأجزاء، وتبلغ ببعضها المبالغة إلى الاعتساف والشطط، كقوله في صفة الفرس:

وأركب في الروع خيفانة ... كسا وجهها سعف منتشر

الخيفانة: الجرادة التي انسلخت من لونها الأول الأسود أو الأصفر وصارت إلى الحمرة، فشبه فرسه بها لخفتها، وشبه ناصيتها بسعف النخلة، قالوا: وهذا الوصف غير مصيب؛ لأن الشعر إذا غطى

<<  <  ج: ص:  >  >>