للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الأدب في القرن الثالث]

استهل القرن الثالث وحضارة العباسيين في أوجها، وقد نفح الأدب العربي بأنفاس الخلود الباقية من عصر المأمون إلى ما شاء الله أن تبقى، ولكن هذا القرن كان في الأندلس نطاحا ومغالبة في أكثر سنيه، وليس فيه من أمراء الأدب المعدودين إلا الأمير عبد الرحمن بن الحكم المعروف بالأوسط معاصر المأمون العباسي, وكان أندى الناس كفا، وأكرمهم عطفًا، وأوسعهم فضلًا، ملك من سنة ٢٠٦هـ إلى سنة ٢٣٨هـ، وكانت أيامه أيام هدوء وسكون، واتخذ القصور والمتنزهات، ولكن سواد الناس لم يهتموا إلا ببناء الجوامع بكور الأندلس ولم تبن إلا في أيامه، وقد جاراهم هو في ذلك فزاد في جامع قرطبة رواقين، ويقول بعضهم إنه فعل ذلك لما اتهم بميله إلى الفلسفة. ولما كان هذا الأمير مع علمه بعلوم الشريعة عالمًا بالفلسفة "ص١٦٢ ج١: نفح الطيب" وكان محبا للسماع، كثير الميل للنساء، احتجب عن العامة، وهو أول من فعل ذلك من أمراء الأندلس ليتنفس في الهواء الرقيق..... المعروف بالغزال الشاعر المفلق الفيلسوف، وكان شاعره، وهو من شعراء الأندلس كامرئ القيس من شعراء الجاهلية، وبشار من شعراء المحدثين، وله الأرجوزة المطولة التي نظمها في فتح الأندلس وذكر فيها السبب في غزوها وفصل الوقائع بين المسلمين وأهلها وعداد الأمراء عليها، وأسماءهم، فأجاد وتقصى، وكان للأندلسيين بها شغف إلى آخر عصورهم، وقد قلده في ذلك أبو طالب المتنبي الشاعر من أهالي جزيرة شقر فنظم كتابًا في تاريخ الأندلس وأورد منه ابن بسام في كتابه "الذخيرة".

وكان الغزال من كبار أهل الدولة حتى أرسله عبد الرحمن سفيرًا إلى ملك القسطنطينية -حين بعث إليه هدية في سنة ٢٢٥هـ يطلب مواصلته ويرغبه في ملك سلفه بالمشرق من أجل ما ضيق به المأمون والمعتصم- فأحكم الغزال بينهما الواصلة، وتوفي هذا الشاعر سنة ٢٥٠هـ.

وكان من شعراء الأمير عبد الرحمن وندمائه عبد الله بن الشمر "ص٣٤٥ ج٢: نفح الطيب"، وكان يكتب له محمد بن سعيد الزجالي، أصمعي الأندلس، وقد استوزره لشطرة من الشعر، وذلك أنه صنع في بعض غزواته قسيمًا، وهو:

نرى الشيء مما يتقى فنهابه

ثم ارتج عليه وكان عبد الله بن الشمر نديمه وشاعره غائبًا عن حضرته. فأراد من يجيزه، فأحضر له بعض قواده محمد بن سعيد هذا، فأنشده القسيم، فقال:

وما لا نرى مما يقي الله أكثر

فاستحسنه وأجازه، وحمله استحسانه على أن استوزره.

وامتاز عصر هذا الأمير بشيوع الغناء في الأندلس، بعد أن قدم عليه زرياب المغني تلميذ إسحاق الموصلي سنة ٢٠٦هـ، وهو الذي أورث هذه الصناعة الأندلس -وسنذكر أمره في تاريخ هذا الفن-

<<  <  ج: ص:  >  >>