للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الأدب ودولة الموحدين]

لما تفرق أهل الأندلس بعد الفتن التي [كانت] في أواخر القرن الخامس، كان منهم الكتاب الوزراء والشعراء والأدباء، فكان لا يستعمل في بر العدوة بلدي ما وجد أندلسي "ص١٢٤ ج٢: نفح الطيب"؛ ومن أجل ذلك كان الأمراء يبعثون في طلبهم ويرغبون فيهم أشد الرغبة، إن لم يكن إحياء لملك الأدب، فزينة لأدب الملك، وقد مر شيء من ذلك في دولة المرابطين، ولما ولي عبد المؤمن -من الموحدين- جرى على هذه السنة، فبعث يستدعي أهل العلم من البلاد إلى السكون عنده والجوار بحضرته؛ وأجرى عليهم الأرزاق الواسعة، وأظهر التنويه بهم والإعظام لهم إلا أنه لم يكن من شعرائه الخواص به من تلقى له أزمة القول، حتى إنه لما تغير على وزيره الكاتب البليغ أبي جعفر بن عطية، امتحن من عنده من الشعراء بهجوه، فلما أسمعوه ما قالوا أعرض عنهم وقال: ذهب ابن عطية وذهب الأدب معه! "ص١٠١ ج٣: نفح الطيب".

ولما خرج بمجموعه يقصد الأندلس، وكانت قد اختلت أحوالها، نزل مدينة سبتة فعبر البحر ونزل الجبل المعروف بجبل طارق، وسماه هو جبل الفتح, وفد عليه في هذا الموضع وجوه الأندلس للبيعة، فكان له هناك يوم عظيم، استدعى فيه الشعراء ابتداء ولم يكن يستدعيهم قبل ذلك؛ إنما كانوا يستأذنون فيؤذن لهم، وعلى بابه منهم طائفة أكثرهم مجيدون "ص١٣٧: المعجب" فأنشده أبو عبد الله محمد بن حبوس من مدينة فاس، وهو الذي كان في دولة لمتونة مقدمًا في الشعراء، والطليق المرواني؛ وابن سيد اللص؛ وهو نحوي كان يغير على أشعار الناس فنبز بهذا الملقب "انظر بغية الوعاة: ص١٥٠"، والرصافي، وكان يومئذ حدثًا، وغيرهم؛ وقد ولي عبد المؤمن بعض أولاده على جهات الأندلس، فولى غرناطة وأعمالها ابنه عثمان؛ ويكنى أبا سعيد، وكان محبا للآداب مؤثرًا لأهلها، يهتز للشعر ويثيب عليه، فاجتمع له من وجوه الشعراء وأعيان الكتاب عصابة كانت البقية الباقية من ضوء ذلك النهار؛ ثم صارت الدولة إلى يوسف بن عبد المؤمن في سنة ٥٥٨هـ وكان في حياة أبيه قد ولي إشبيلية وأعمالها، نزل منها محل المعتمد ووقف على آثار دولته، فاختلط هناك بعلمائها، كالأستاذ اللغوي ابن ملكون وغيره، وجعل يأخذ عنهم، وصرف عنايته إلى كلام العرب وحفظ أيامهم ومآثرهم وأخبارهم في الجاهلية والإسلام، حتى صار أسرع الناس نفوذ خاطر في غوامض النحو ومسائل العربية، مع مشاركة في علم الأدب واتساع في حفظ اللغة، ثم طمح به شرف نفسه وعلو همته إلى تعلم الفلسفة؛ فجمع كثيرًا من أجزائها، وبدأ من ذلك بعلم الطب، ثم تخطاه إلى ما هو أشرف منه من أنواع الفلسفة، وأمر بجمع كتبها فاجتمع له منها قريب مما اجتمع للحكم المستنصر، وما كان ينتهي إليه خبر كتاب منها عند أحد إلا أخذه وعوض عليه ما هو خير له؛ ولم يزل يجمع الكتب من أقطار الأندلس والمغرب، ويبحث عن العلماء وخاصة أهل العلوم النظرية، إلى أن صارت حاضرته بذلك أشبه بحاضرة خلافة علمية؛ وكان ممن صحبه من فلاسفة الإسلام، أبو بكر محمد بن طفيل، تلميذ أبي بكر بن الصائغ، وقد كان أمير المؤمنين أبو يعقوب هذا شديد الشغف به والحب له حتى كان يقيم عنده في القصر أيامًا ليلًا ونهارًا لا يظهر، وهو الذي تولى جلب العلماء إليه من جميع الأقطار، ونبه على أقدارهم، ولولاه ما كان ابن رشد أعظم فلاسفة الأندلس شيئًا مذكورًا؛ إذ هو الذي نوه به حتى عظم قدره، وتقدم إليه في تلخيص كتب أرسطوطاليس وتقريب أغراضها. وكان من كتاب أبي يعقوب أبو [عبد الله] محمد [بن] عياش بن عبد الملك، وهو الذي جرى على طريقة خاصة في الإنشاء توافق طريقة هؤلاء الأمراء وتصيب ما في أنفسهم، ثم جرى الكتاب من أهل ذلك المصر بعده على أسلوبه وسلكوا مسلكه، لما رأوا من استحسانهم لتلك الطريقة "ص١٧٤: المعجب" وكان أشهر شعرائه وشاعر المغرب في وقته أبو بكر بن مجير الأندلسي المتوفى سنة ٥٨٧هـ؛ ومن شعراء زمنه وزمن أبيه الرصافي، والكندي، وأبو جعفر بن سعيد، وابن الصابوني شاعر إشبيلية ووشاحها، وابن إدريس الرندي.

<<  <  ج: ص:  >  >>