للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[القوافي الحسية]

هذا نوع عجيب، تنوب فيه الحركة أو الإشارة عن اللفظ في موضع القافية موقعة على عروضها، وهو نهاية في الظرف والملاحة؛ لأن من المعاني ما قد تكون الحركة أو الإشارة فيه أبلغ من اللفظ دلالة وأبدع موقعًا وأحسن إطرابًا، وإنما يكون لها ذلك إذا كان فيها معنى من معاني القلب، فكأن القلب هو الذي ينطق؛ ولذلك لا يعدو أن يصيب مواقع الهوى ويحرك في النفوس العجب والاستحسان؛ وذلك كقول بعضهم:

ظفرت بمعشوق له الحسن حلة ... فقبلته شفعًا وقلت له.....

فقال أتهواني فقلت له نعم ... فقال ومن غيري فقلت له.....

البيتان من الطويل، وقد جعل قافية الأول صوت القبلة مكررًا مرتين كما يدل عليه قوله: "شفعا" وقافية الثاني الصوت الدال على النفي مكررًا أيضًا، وهو ينشأ عن القرع بطرف اللسان على أطراف الثنيتين المتقدمتين من أعلى الثغر، وليس في البيتين من الحسن أكثر من هذه الحركة كما ترى، ولما كانت مما لا سبيل إلى تصوير حروفه بالخط كانت إلى الطبيعة أقرب وكانت لذلك أملح.

وللعرب في بعض ذلك تعبير يؤدي معنى الإشارة اصطلاحًا، كتعبيرهم عن صوت النفي في البيت الثاني بقولهم مض، قال في لسان العرب: هو أن يقول الإنسان بطرف لسانه شبه لا، وأنشد:

سألتها الوصل فقالت مض ... وحركت لي رأسها بالنغض

ومن هذه القوافي قول الآخر:

ولقد قلت للمليحة قولي ... من بعيد لمن يحبك

فأشارت بمعصم وبنان ... أيها العاشق المتيم.....

والبيتان من الخفيف، وعجز كل منهما ينقص سببين خفيفين، فجعل تمام الأول حركة اليد التي يشار بها بمعنى "أقبل" مكررة، وهي توازن السببين في امتداد الزمن، وجعل تمام الثاني الحركة التي يشار بها بمعنى "اذهب" مكررة كذلك، والقافيتان مما يتناول بالبصر ومما لا سبيل إلى تصويره بغير أداته الطبيعية، وقد روى البيتين وزاد فيهما ثالثًا الحسن بن رشيق صاحب "العمدة"، قال: وقد جاء أبو نواس بإشارات أخر لم تجر العادة بمثلها، وذلك أن الأمين ابن زبيدة قال له مرة: هل تصنع شعرًا لا قافية له؟ قال: نعم، وصنع من فوره ارتجالًا:

ولقد قلت للمليحة قولي ... من بعيد لمن يحبك....

"إشارة قبلة"

فأشارت بمعصم ثم قالت ... من بعيد خلاف قولي....

"إشارة لالا"

فتنفست ساعة ثم إني ... قلت للبغل عند ذلك....

"إشارة امش"

والإشارات في هذه الأبيات إما أن تكون باليد أو بحركات الشفة على نحو ما سبق، وعلى ذلك

<<  <  ج: ص:  >  >>