للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الفصل السادس: في الحكمة التي هي ضالة المؤمن

قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "الحكمة ضالَّة المؤمن فهو أحق بها إذا وجدها" والمراد بذلك أن الحكمة قد يستفيدها أهلها من غير أهلها، كما يقال: "رب رمية من غير رام"، وهذا لا يخص علمًا واحدًا من العلوم، بل يقع في كل علم، والمطلوب منه ههنا هو ما يخص علم البيان من الفصاحة والبلاغة، دون غيره.

ومذ سمعت هذا الخبر النبوي جعلت كَدِّي في تتبُّع أقوال الناس في مفاوضاتهم ومحاوراتهم، فإنه قد تصدر الأقوال البليغة والحكم والأمثال ممن لا يعلم ما يقوله، فاستفدت بذلك فوائد كثيرة لا أحصرها عددًا، وأنا أذكر منها طرفًا يستدل به على أشباهه ونظائره.

فمن ذلك أنِّي سرت في بعض الطرق وفي صحبتي رجل بدوي من الأنباط١ لا يعتدُّ بقوله، فكان يقول: "غدًا ندخل البلد وتشتغل عني"، وكان الأمر كما قال، فدخلت مدينة حلب وشغلت عنه أيامًا، ثم لقيني فقال لي: "مَنْ تَرَوَّى فَتُرَتْ عِظَامُه"، وهذا القول من الأقوال البليغة, وهي من الحكمة التي هي الضالة المطلوبة عند مؤمني الفصاحة والبلاغة.

ثم إني سمعت منه بعد ذلك شيئًا يناسب قوله الأول، فإني سفرت له إلى صاحب في حلب في شيء أخذته منه، فاستقلَّه، وقال: "الماء أروى لشدوق النيب". وهذا أيضًا من الحكمة في بابها.

وسافرت مرة أخرى على طريق المناظرة، وكان في صحبتي رجل بدوي، فسألته عن مسافة ما بين تدمر٢ وأراك٣، فقال: إذا "خرج سرحاهما تلاقيا"، فعبَّر عن قرب المسافة بينهما بأوجز عبارة وأبلغها.


١ النبط والنبيط والأنباط جيل ينزلون بالبطائح بين العراقين "القاموس ٢/ ٣٨٧".
٢ تدمر مدينة مشهورة في بربة الشام، بينها وبين حلب خمسة أيام، وهي قريبة من حمص.
٣ أراك: وادي الأراك قرب مكة.

<<  <  ج: ص:  >  >>