للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يخطىء في جوابه، ويحيل في كلامه، ويناقض في خبره. ولولا أن هذه الأمور قد كانت تكون في بعضهم دون بعض لما سمي ذلك البعض البعض الآخر بهذه الأسماء.

وأنا أقول: إنه ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا آنق، ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالا بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويما للبيان، من طول استماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء، والعلماء البلغاء.

وقد أصاب القوم في عامة ما وصفوا، إلا أني أزعم أن سخيف الألفاظ مشاكل لسخيف المعاني. وقد يحتاج إلى السخيف في بعض المواضع، وربما أمتع بأكثر من امتاع الجزل الفخم من الألفاظ، والشريف الكريم من المعاني. كما أن النادرة الباردة جدا قد تكون أطيب من النادرة الحارة جدا. وإنما الكرب الذي يختم على القلوب، ويأخذ بالأنفاس، النادرة الفاترة التي لا هي حارة ولا باردة، وكذلك الشعر الوسط، والغناء الوسط، وإنما الشأن في الحار جدا والبارد جدا.

وكان محمد بن عباد بن كاسب يقول: والله لفلان أثقل من مغن وسط وأبغض من ظريف وسط.

ومتى سمعت- حفظك الله- بنادرة من كلام الأعراب، فإياك أن تحكيها إلا مع أعرابها ومخارج ألفاظها، فإنك إن غيّرتها بأن تلحن في إعرابها وأخرجتها مخارج كلام المولدين والبلديين، خرجت من تلك الحكاية وعليك فضل كبير. وكذلك إذا سمعت بنادرة من نوادر العوام، وملحة من ملح الحشوة والطغام، فإياك وأن تستعمل فيها الإعراب، أو تتخير لها لفظا حسنا، أو تجعل لها من فيك مخرجا سريا، فإن ذلك يفسد الامتاع بها، ويخرجها من صورتها، ومن الذي أريدت له، ويذهب استطابتهم إياها واستملاحهم لها.

ثم اعلم أن أقبح اللحن لحن أصحاب التقعير والتقعيب، والتشديق والتمطيط والجهورة والتفخيم. وأقبح من ذلك لحن الأعاريب النازلين على طرق السابلة، وبقرب مجامع الأسواق.

<<  <  ج: ص:  >  >>