للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ورأيت ناسا يستحسنون جواب إياس بن معاوية حين قيل له: ما فيك عيب غير أنك معجب بقولك. قال: أفأعجبكم قولي؟ قالوا: نعم. قال:

فأنا أحقّ بأن أعجب بما أقول، وبما يكون مني منكم.

والناس، حفظك الله، لم يضعوا ذكر العجب في هذا الموضع.

والمعيب عند الناس ليس هو الذي لا يعرف ما يكون منه من الحسن. والمعرفة لا تدخل في باب التسمية بالعجب، والعجب مذموم. وقد جاء في الحديث:

«إن المؤمن من ساءته سيئته وسرّته حسنته» . وقيل لعمر: فلان لا يعرف الشر. قال: «ذاك أجدر أن يقع فيه» . وإنما العجب اسراف الرجل في السرور بما يكون منه والإفراط في استحسانه، حتى يظهر ذلك في لفظه وفي شمائله. وهو الذي وصف به صعصعة بن صوحان، المنذر بن الجارود، عند علي بن أبي طالب رحمه الله، فقال: «أما إنه مع ذلك لنظار في عطفيه، تفّال في شراكيه، تعجبه حمرة برديه» .

قال أبو الحسن: قيل لإياس: ما فيك عيب إلا كثرة الكلام. قال:

فتسمعون صوابا أم خطأ؟ قالوا: لا، بل صوابا. قال: «فالزيادة من الخير خير» . وليس كما قال، للكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية، وما فضل عن قدر الاحتمال ودعا إلى الاستثقال والملال، فذلك الفاضل هو الهذر، وهو الخطل، وهو الإسهاب الذي سمعت الحكماء يعيبونه.

وذكر الأصمعي أن عمر بن هبيرة لما أراده على القضاء قال: إني لا أصلح له. قال: وكيف ذلك؟ قال: لأنني عييّ، ولأني حديد. قال ابن هبيرة: أما الحدة فإن السوط يقوّمك، وأما الدمامة فإني لا أريد أن أحاسن بك أحدا، وأما العيّ فقد عبرت عما تريد.

فإن كان إياس عند نفسه عييا فذاك أجدر بأن يهجر الإكثار.

وبعد فما نعلم أحدا رمى إياسا بالعيّ، وإنما عابوه بالإكثار.

<<  <  ج: ص:  >  >>