للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عليّ من وفود الأمم، فوجدت الروم لها حظ في اجتماع ألفتها وعظم سلطانها وكثرة مدائنها ووثيق بنيانها، وأنّ لها دينا يبين حلالها وحرامها، ويردّ سفيهها ويقوّم جاهلها؛ ورأيت الهند لها نحو من ذلك في حكمتها وطبها، مع كثرة أنهار بلادها وأثمارها، وعجيب صناعتها، وطيب أشجارها، ودقيق حسابها مع كثرة عددها؛ وكذلك الصين في اجتماعها وكثرة صناعات أيديها وفروسيتها وهمتها في آلة الحرب وصنعة الحديد، وإنّ لها ملكا يجمعها؛ والترك والخزر على ما بهم من سوء الحالة والمعاش وقلة الريف والثمار، وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والملابس، لهم ملوك تضم قواصيهم وتدبر أمرهم؛ ولم أر للعرب شيئا من خصال الخير في أمر دين ولا دنيا ولا حزم ولا قوة ولا عقل ولا حكمة، مما يدل على مهانتها وذلّها وصغر همّتها، محلتهم التي هم بها مع الوحوش النافرة والطيور الطائرة الحائرة، يقتلون أولادهم من الفاقة، ويقتل بعضهم بعضا من الحاجة، وقد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها ولهوها ولذتها، فأفضل طعام ظفر به ناعمهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها.

هذا خبر تشهد معانيه أنه مصنوع، فإنّ ألفاظه مولدة، ورجال العرب والذين نسب إليهم الحكاية [١] متباعدة أعصارهم، لكنه يتضمن محاسن العرب والاحتجاج على من ينتقصهم ويقدح فيهم، وفي هذه الفائدة كفاية لأجلها نقلته إلى هاهنا.

وإن قرى أحدهم ضيفا عدّها مكرمة، وإن أطعم أكلة عدّها غنيمة، تنطق بذلك أشعارهم، وتفتخر بذلك رجالهم، ما خلا هذه التنوخية الذي استنّ جدي اجتماعها وشيّد مملكتها ومنعها من عدوّها، فحريّ لها ذلك إلى يومنا هذا، وإنّ لها مع ذلك آثارا ولبوسا وقرارا وحصونا، نسبه بعض أمور الناس- يعني أهل


[١] م: الخطابة.

<<  <  ج: ص:  >  >>