للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَصْلٌ: فِي الْكَسْبِ

ــ

[الاختيار لتعليل المختار]

لِلْعَرْضِ عَلَى الْمُشْتَرِي مَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ يَغُرُّ بِالْمُشْتَرِي. وَفِي الْحَدِيثِ: «تُضْرَبُ الدَّابَّةُ عَلَى النِّفَارِ وَلَا تُضْرَبُ عَلَى الْعِثَارِ» فَإِنَّ الْعِثَارَ يَكُونُ مِنْ سُوءِ إِمْسَاكِ الرَّاكِبِ اللِّجَامَ؛ وَالنِّفَارُ مِنْ سُوءِ خُلُقِ الدَّابَّةِ فَتُؤَدَّبُ عَلَى ذَلِكَ. وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: لَا تَخْصِيَنَّ فَرَسًا وَلَا تُجْرِيَنَّ فَرَسًا، وَمَعْنَاهُ أَنَّ صَهِيلَ الْفَرَسِ يُرْهِبُ الْعَدُوَّ، وَالْخَصْيُ يَمْنَعُهُ لَا أَنَّهُ حَرَامٌ لِأَنَّهُمْ تَعَارَفُوهُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى يَوْمِنَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَيَجُوزُ شِرَاءُ الْخَصِيِّ مِنَ الْخَيْلِ وَرُكُوبُهُ بِالِاتِّفَاقِ؛ وَمَعْنَى النَّهْيِ الثَّانِي إِجْرَاءُ الْفَرْسِ فَوْقَ مَا يَحْتَمِلُهُ.

[فَصْلٌ فِي الكسب]

ِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَمَاعَةَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ يَقُولُ: طَلَبُ الْكَسْبِ فَرِيضَةٌ كَمَا أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ، وَهَذَا صَحِيحٌ لِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «طَلَبُ الْكَسْبِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «طَلَبُ الْكَسْبِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ» أَيِ الْفَرِيضَةُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، وَلِأَنَّهُ لَا يُتَوَسَّلُ إِلَى إِقَامَةِ الْفَرْضِ إِلَّا بِهِ فَكَانَ فَرْضًا لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ إِلَّا بِقُوَّةِ بَدَنِهِ، وَقُوَّةُ بَدَنِهِ بِالْقُوتِ عَادَةً وَخِلْقَةً. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ} [الأنبياء: ٨] وَتَحْصِيلُ الْقُوتِ بِالْكَسْبِ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي الطَّهَارَةِ إِلَى آلَةِ الِاسْتِقَاءِ وَالْآنِيَةِ، وَيَحْتَاجُ فِي الصَّلَاةِ إِلَى مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ عَادَةً بِالِاكْتِسَابِ وَالرُّسُلُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانُوا يَكْتَسِبُونَ، فَآدَمُ زَرَعَ الْحِنْطَةَ وَسَقَاهَا وَحَصَدَهَا وَدَاسَهَا وَطَحَنَهَا وَعَجَنَهَا وَخَبَزَهَا وَأَكَلَهَا؛ وَنُوحٌ كَانَ نَجَّارًا، وَإِبْرَاهِيمُ كَانَ بَزَّازًا، وَدَاوُدُ كَانَ يَصْنَعُ الدُّرُوعَ، وَسُلَيْمَانُ كَانَ يَصْنَعُ الْمَكَاتِلَ مِنَ الْخُوصِ، وَزَكَرِيَّا كَانَ نَجَّارًا، وَنَبِيُّنَا رَعَى الْغَنَمَ، وَكَانُوا يَأْكُلُونَ مِنْ كَسْبِهِمْ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَزَّازًا، وَعُمَرُ يَعْمَلُ فِي الْأَدِيمِ، وَعُثْمَانُ كَانَ تَاجِرًا يَجْلِبُ الطَّعَامَ فَيَبِيعُهُ، وَعَلِيٌّ كَانَ يَكْتَسِبُ فَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ.

وَلَا تَلْتَفِتُ إِلَى جَمَاعَةٍ أَنْكَرُوا ذَلِكَ وَقَعَدُوا فِي الْمَسَاجِدِ أَعْيُنُهُمْ طَامِحَةٌ وَأَيْدِيهِمْ مَادَّةٌ إِلَى مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُسَمُّونَ أَنْفُسَهُمُ الْمُتَوَكِّلَةَ، وَلَيْسُوا كَذَلِكَ، يَتَمَسَّكُونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: ٢٢] (٢٢)) وَهُمْ بِمَعْنَاهُ وَتَأْوِيلِهِ جَاهِلُونَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَطَرُ الَّذِي هُوَ سَبَبُ إِنْبَاتِ الرِّزْقِ، وَلَوْ كَانَ الرِّزْقُ يَنْزِلُ عَلَيْنَا مِنَ السَّمَاءِ لَمَا أُمِرْنَا بِالِاكْتِسَابِ وَالسَّعْيِ فِي الْأَسْبَابِ، قَالَ تَعَالَى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: ١٥] ؛ وَقَالَ تَعَالَى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: ٢٦٧] .

<<  <  ج: ص:  >  >>