للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

العدل والرجوع عن ذلك العزم. فلما كان آخر الليل، قالت لها أمها: قومي احلبي، فقامت فوجدت البقرة حافلا، فقالت: يا أماه قد والله ذهب ما في نفس الملك من السوء. فلما ارتفع النهار، جاء أصحاب كسرى فركب وأمر بحمل العجوز وابنتها إليه، فأحسن إليهما، وقال: كيف علمتما ذلك؟ فقالت العجوز: أنا بهذا المكان منذ كذا وكذا ما عمل فينا بعدل إلا أخصبت أرضنا، واتسع عيشنا، وما عمل فينا بجور إلا ضاق عيشنا، وانقطعت مواد النفع عنا. وذكر الإمام الطرطوشي، في سراج الملوك، أنه كان بصعيد مصر نخلة تحمل عشرة أرادب تمرا ولم يكن في ذلك الزمان نخلة تحمل نصف ذلك فغصبها السلطان، فلم تحمل في ذلك العام ولا تمرة واحدة. قال الطرطوشي: وقال لي شيخ من أشياخ الصعيد: أعرف هذه النخلة في الغربية تجني عشرة أرادب ستين ويبة، وكان صاحبها يبيع في سني الغلاء كل ويبة بدينار. وذكر ابن خلكان، في ترجمة جلال «١» الدولة ملك شاه السلجوقي، أن واعظا دخل عليه، فكان من جملة ما وعظه به أن بعض الأكاسرة اجتاز منفردا عن عسكره، على باب بستان، فتقدّم إلى الباب وطلب ماء يشربه، فخرجت له صبية بإناء، فيه ماء قصب السكر والثلج، فشربه فاستطابه فقال لها: هذا كيف يعمل؟ فقالت: إن القصب يزكو عندنا حتى نعصره بأيدينا فيخرج منه هذا الماء. فقال: ارجعي واعصري شيئا آخر، وكانت الصبية غير عارفة به، فلما ولت قال في نفسه: الصواب أن أعوضهم غير هذا المكان واصطفيه لنفسي، فما كان بأسرع من خروجها باكية وقالت: إن نية سلطاننا قد تغيرت: قال: ومن أين علمت ذلك؟ قالت: كنت آخذ من هذا ما أريد بغير تعب، والآن قد اجتهدت في عصره فلم أستطع، فرجع عن تلك النية، ثم قال لها: ارجعي الآن فإنك تبلغين الغرض، وعقد في نفسه، أن لا يفعل ما نواه. فذهبت ثم جاءت ومعها ما شاءت من ماء القصب، وهي مستبشرة. قال: وكان ملك شاه من أحسن الملوك سيرة، حتى لقب بالملك العادل، وكان قد أبطل المكوس والخفارات في جميع البلاد فكثر الأمن في زمانه، وكان قد ملك ما لم يملكه أحد من ملوك الإسلام. وكان لهجا بالصيد، قيل إنه ضبط ما اصطاده بيده فكان عشرة آلاف، فتصدق بعشرة آلاف دينار وقال: إني خائف من الله تعالى من إزهاق الأرواح لغير مأكله، وكان كلما اصطاد صيدا يتصدق بدينار. وقيل إنه خرج مرة من الكوفة، فاصطاد في طريقه وحشا كثيرا فبنى هناك منارة من حوافر حمر الوحش وقرون الظباء التي صادها في تلك الطريق. قال: يعني ابن خلكان والمنارة باقية إلى الآن تعرف بمنارة القرون.

وكانت وفاته ببغداد سادس عشر شوّال سنة خمس وثمانين وأربعمائة. ومن عجيب الإتفاق أنه المقتدي بالله كان قد بايع لولده المستظهر بولاية العهد من بعده، فلما دخل ملك شاه بغداد المرة الثالثة ألزم المقتدي أن يعزل ولده المستظهر ويجعل ولده جعفر، الذي رزقه من ابنته ولي العهد ويخرج المقتدي إلى البصرة. فشق ذلك على المقتدي، وبالغ في استنزال ملك شاه عن هذا الرأي فلم يفعل، فسأله المهلة عشرة أيام ليتجهز، فأمهله فجعل المقتدي يصوم ويطوى، وإذا

<<  <  ج: ص:  >  >>