للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

قال: فمم حنيت؟ قال: من طول العبادة. قال: فما هذه الحبة في فيك؟ قال: أعددتها للصائمين. فلما أمسى تناول الحبة فوقع الفخ في عنقه فخنقه. فقال العصفور: إن كان العباد يخنقون خنقك فلا خير في العباد اليوم. وفيه أيضا عن الحسن، أن لقمان قال لابنه: يا بني حملت الجندل والحديد، وكل حمل ثقيل فلا أجد شيئا أثقل من الجار السوء، وذقت المرار كله فلم أذق شيئا أمر من الفقر، يا بني لا ترسل رسولا جاهلا فإن لم تجد حكيما، فكن رسول نفسك. يا بني إياك والكذب، فإنه شهي كلحم العصفور، وعما قليل يقلي صاحبه. يا بني احضر الجنائز ولا تحضر العرس، فإن الجنائز تذكرك الآخرة والعرس يشهيك الدنيا. يا بني لا تأكل شبعا على شبع، فإنك إن تلقيه إلى الكلب خير لك من أن تأكله. يا بني لا تكن حلوا فتبلع، ولا مرا فتلفظ.

ورأيت في بعض المجاميع عن الحسن، أن لقمان قال لابنه: يا بني اعلم أنه لا يطأ بساطك إلا راغب فيك، أو راهب منك، فأما الراهب منك الخائف فأدن مجلسه وتهلل في وجهه، وإياك والغمز من ورائه، وأما الراغب فيك فاظهر له البشاشة مع صفاء الباطن له، وأبدأه بالنوال قبل السؤال، فإنك إن تلجئه إلى السؤال منك تأخذ من حر وجهه ضعفي ما تعطيه. وأنشدوا على هذا:

إذا أعطيتني بسؤال وجهي ... فقد أعطيتني وأخذت مني

يا بني ابسط حملك للقريب والبعيد، وأمسك جهلك عن الكريم واللئيم، وصل أقاربك، وليكن إخوانك من إذا فارقتهم وفارقوك، لم تعبهم ولم يعيبوك اهـ.

وقد أذكرني هذا، ما حكاه بعض أشياخي أن الاسكندر وجه رسولا إلى بعض ملوك الشرق فعاد رسوله برسالة، شك الاسكندر في حرف منها، فقال له الاسكندر: ويحك إن الملوك لا يخاف عليها إلا إذا مالت بطانتها، وقد جئتني برسالة صحيحة الألفاظ، بينة العبارة، غير أن فيها حرفا ينقصها، فعلى يقين أنت منه أم شاك فيه؟ فقال الرسول: على يقين. فأمر الاسكندر أن تكتب ألفاظها حرفا حرفا، وتعاد إلى الملك مع رسول آخر، فتقرأ عليه وتترجم له. فلما قرىء الكتاب على الملك، مر بذلك الحرف فأنكره، فقال للمترجم: ضع يدك على هذا الحرف، فوضعها وأمر أن يقطع ذلك الحرف، فقطع من الكتاب، وكتب إلى الاسكندر رأس المملكة صحة فطنة الملك، ورأس الملك صدق لهجة رسوله، إذا كان عن لسانه ينطق، وإلى اذنه يؤدي وقد قطعت ما لم يكن من كلامي، إذ لم أجد إلى قطع لسان رسولك سبيلا. فلما جاء الرسول بهذا إلى الاسكندر، دعا الرسول الأول، وقال له: ما حملك على كلمة أردت بها الفساد بين ملكين؟

فأقر الرسول أن ذلك لتقصير رآه من الموجه إليه، فقال له الاسكندر: ما أراك سعيت إلا لنفسك لا لنا، فلما فاتك ما أملت، جعلت لك ثأرا في الأنفس الخطيرة الرفيعة. ثم أمر بلسانه فنزع من قفاه. وقال يحيى بن خالد بن برمك: ثلاثة أشياء تدل على عقول الرجال: الهدية والرسول والكتاب.

وسمع أبو الأسود الدؤلي رجلا ينشد:

إذا كنت في حاجة مرسلا ... فأرسل حكيما ولا توصه

<<  <  ج: ص:  >  >>