للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ومعنى الآية أن بورك فيك يا موسى، وفي الملائكة الذين حول النار، وهذه تحية من الله عز وجل لموسى عليه السلام، وتكرمة له. كما حيا إبراهيم عليه السلام، على ألسنة الملائكة، حين دخلوا عليه، فقالوا: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد، فحمد نفسه تعالى بواسطة فعله. قلت: وكذلك إذا ذكر العبد ربه أو حمده فما ذكر الله إلا الله، ولا حمد الله إلا الله، لأنه تعالى ذكر نفسه وحمدها، بواسطة فعله. والعبد آلة ليس له شيء. قال «١» تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ

وقال تعالى: وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ

«٢» ففعل العبد ينسب إلى الله خلق وايجاد. قال تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ

«٣» وينسب إلى العبد نسبة كسب وإسناد ليعاقب عليه أو يثاب، والله تعالى أعلم. وقال بعضهم: هذه البركة راجعة إلى النار نفسها.

وأما وجه قوله تعالى: بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ

«٤» فإن العرب تقول بارك الله لك وبارك فيك وبارك عليك وباركك، أربع لغات. قال الشاعر:

فبوركت مولودا وبوركت ناشئا ... وبوركت عند الشيب إذ أنت أشيب

وأما الكلام المسموع من الشجرة، فاعلم أن مذهب أهل الحق، أن الله تعالى مستغن عن الحد والكلام والمكان والجهة والزمان، لأن ذلك من أمارات الحدوث، وهي خلقه وملكه، وهو سبحانه أجل وأعظم من أن يوصف بالجهات، أو يحد بالصفات، أو تحصيه الأوقات، أو تحويه الأماكن والأقطار، ولما كان جل وعلا كذلك، استحال أن توصف ذاته بأنها مختصة بجهة، أو متنقلة من مكان إلى مكان، أو حالة في مكان.

روي أن موسى عليه السلام، لما كلمه الله تعالى، سمع الكلام من سائر الجهات، ولم يسمعه من جهة واحدة، فعلم بذلك أنه كلام الله تعالى. وإذا ثبت هذا لم يجز أن يوصف تعالى بأنه يحل موضعا أو ينزل مكانا، كما لا يوصف بأنه جوهر ولا عرض، ولا يوصف كلامه بحرف ولا صوت، خلافا للحنابلة الحشوية، بل هو صفة قائمة بذاته تعالى، يوصف بها فينتفي عنه بها آفات الخرس والبكم، وما لا يليق بجلاله وكماله، ولا تقبل الانفصال والفراق بالانتقال إلى القلوب والأوراق. وأما الإفهام والإسماع، فيجوز أن يكون في موضع دون موضع، ومكان دون مكان، وحيث لم يقع إحاطة ولا إدراك بالوقوف على كنه ذاته، قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ

«٥» وأما الهاء في قوله «٦» تعالى: يا مُوسى إِنَّهُ

فهو عماد وليس بكناية.

[فائدة أخرى]

: اختلف في أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم هل كلم ربه ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا؟

فذهب ابن عباس وابن مسعود وجعفر الصادق وأبو الحسن الأشعري وطائفة من المتكلمين إلى أنه صلى الله عليه وسلم كلم الله بغير واسطة، وذهب جماعة إلى نفي ذلك. واختلف في جواز الرؤية، فأكثر المبتدعة على إنكار جوازها في الدنيا والآخرة، وأكثر أهل السنة والسلف على جوازها فيهما،

<<  <  ج: ص:  >  >>