للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأوّل ما يثنى عليه به، ويذكر منه، أنّه كريم الجوهر، شريف النّفس، رفيع القدر، بعيد الهم، وكذلك طبيعته المعروفة وسجيّته الموصوفة. وأنّه يسرّ النفوس ويحبّب إليها الجود، ويزيّن لها الإحسان، ويرغّبها في التوسّع، ويورثها الغنى، وينفي عنها الفقر، ويملؤها عزّا، ويعدها خيرا، ويحسّن المسارّة، ويصير به النّبت خصبا والجناب مريعا، ومأهولا معشبا.

[٩- النبيذ يجمع الندماء ويرفق بالسكارى]

وليس شيء من المأكول والمشروب أجمع للظّرفاء، ولا أشدّ تألّفا للأدباء، ولا أجلب للمؤنسين، ولا أدعى إلى خلاف الممتعين، ولا أجدر أن يستدام به حديثهم ويخرج مكنونهم، ويطول به مجلسهم، منه.

وإنّ كلّ شراب كان حلا ورقّ، وصفا ودقّ، وطاب وعذب، وبرد ونقخ، فإنّ استطابتك لأوّل جرعة منه أكثر، ويكون من طبائعك أوقع. ثم لا يزال في نقصان إلى أن يعود مكروها وبليّة، إلا النبيذ، فإنّ القدح الثاني أسهل من الأوّل، والثالث أيسر، والرابع ألذّ، والخامس أسلس، والسادس أطرب، إلى أن يسلمك إلى النّوم الذي هو حياتك، أو أحد أقواتك. ولا خير فيه إذا كان إسكاره تغلّبا، وأخذه بالرأس تعسّفا، حتّى يميت الحسّ بحدّته، ويصرع الشارب بسورته، ويورث البهر بكظّته، ولا يسري في العروق لغلظه، ولا يجري في البدن لركوده، ولا يدخل في العمق ولا يدخل الصّميم.

ولا والله حتّى يغازل العقل ويعارضه، ويدغدغه ويخادعه، فيسرّه ثمّ يهزّه، فإذا امتلأ سرورا وعاد ملكا محبورا، خاتله السّكر وراوغه، وداراه وماكره، وهازله وغانجه. وليس كما يغتصب السّكر، ويعتسف الداذيّ، ويفترس الزّبيب؛ ولكن بالتفتير والغمز، والحيلة والختل، وتحبيب النوم،

<<  <   >  >>