للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

لا والله إن تعرف على ظهرها موضعا للسرّ، ولا مكانا للشكوى، ولا روحا تأنس بها، ولا نفسا تسكن إليها. ولو أردت أن تعرّفني من جميع العالمين رجلا لما قدرت على أحد يحتمل الغنى. ومحتمل الفقر قليل، ومحتمل الغنى عديم.

إنّ الخير- أبقاك الله- في أيام كثرته كان قليلا فما ظنّك به في أيام قلّته، وإن الشرّ في أيام قلّته كان كثيرا فما ظنّك به في أيّام كثرته، وأنت غريب في المصطنعين، وأنا غريب في الصنائع، والغريب للغريب نسيب، ونسب المشاكلة وقرابة الطبيعة الموافقة، أقرب من نسب الرحم؛ لأنّ الأرحام مولعة بالتحاسد، لهجة بالتقاطع، وأن التحابّ على طبع المشاكلة. والتلاقي على وفاق من الطبيعة، أبعد من التفاسد، وأبعد من التعادي. وسبب التعادي عرض في طبائع الغرباء، وجوهر في طبائع الأقرباء.

واعلم أنّك لا تزال في وحشة إلى وحشة، وفي غربة إلى غربة، وفي تنكّر العيش وتسخّط الحال، حتى تجد من تشكو إليه بثّك، وتفضي إليه بذات نفسك. ومتى رأيت عجبا لم تضحك رؤيتك له بقدر ما يضحكك إخبارك إياه. فمن أغلب عليك ممّن كانت هذه حاله منك، وموقعه من نفسك.

[١٦- الجاحظ يستعطف ابن الزيات بشيخوخته وافضاله عليه ابان شبابه]

ولو أنّ شيبتي التي بها استعطفتك، وكبرة سنيّ التي بها استرحمتك، اللتان لم يحدثا عليّ إلّا وأنا في ذراك، ولم يحلّا بي إلّا وأنا في ظلّك، لكان في شفاعة الكبرة، واسترحام الضّعف والوهنة، ما يردعك عنّي أشدّ الردع، ويؤثّر في طباعك أبين الأثر. فكيف وقد أكرمتني جديدا، ثم تريد أن

<<  <   >  >>