للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

المزاح إلى مذاهب متضادة، وسلكوا منه في طرق مختلفة. فزعم بعضهم أن جميع المزاح خير من جميع الجد. وزعم آخرون أن الخير والشر عليهما مقسومان، وأن الحمد والذم بينهما نصفان.

وسنأتي على هذه الأقاويل ثم نذكر ما نقول إن شاء الله.

فأما المحامي على الهزل والمفضل للمزح فانه قال: أول ما أذكر من خصال الهزل ومن فضائل المزح أنه دليل على حسن الحال وفراغ البال، وأن الجد لا يكون إلا من فضل الحاجة، والمزح لا يكون إلا من فضل الغنى.

وأن الجد غضب والمزح جمام. والجد مبغضة والمزح محبة. وصاحب الجد في بلاء ما كان فيه وصاحب المزح في رخاء إلى أن يخرج منه. والجد مؤلم وربما عرضك لأشد منه، والمزح ملذ وربما عرضك لألذ منه. والجد مألم التعريض للخير والشر، وباينه بتعجيل الخير دون الشر. وإنما تشاغل الناس ليفرغوا، وجدوا ليهزلوا، كما تذللوا ليعزوا وكدوا ليستريحوا. وإن كان المزاح إنما صار معيبا، والهزل إنما صار مذموما لأن صاحبه لا يكون معرضا لمجاوزة القدر ومخاطرا بمودة الصديق. فالجد داعية الى الإفراط كما أن المزاح داعية إلى مجاوزة القدر. والتجاوز للحد قاطع بين القرينين في جميع النوعين. فقد ساواه المزاح فيما هو له وباينه فيما ليس له. وإن كان المزح قبيحا لأنه يورث الجد، فأقبح من المزح ما صير المزح قبيحا، لأن الذي يكون بعده الجد، ولم يصير الجد قبيحا لأن الذي بعده المزح، كان الجد في هذا الوزن أقبح من المزح، وكان المزح على هذا التقدير أحسن من الجد، لأن ما جعل الشيء قبيحا أقبح من الشيء، كما أن ما جعل الشيء حسنا أحسن من الشيء.

وأما الذي عدل بينهما فإنه زعم أن المزح في موضعه كالجد في موضعه، كما أن المنع في حقه كالبذل في حقه. قال: ولكل شيء موضع

<<  <   >  >>