للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ثمَّ بعثوا إِلَى أبي لبَابَة، وَكَانُوا حلفاء بني عَمْرو بْن عَوْف وَسَائِر الْأَوْس، فَأَتَاهُم، فَجمعُوا إِلَيْهِ أَبْنَاءَهُم ورجالهم ونساءهم وَقَالُوا لَهُ: يَا أَبَا لبَابَة أَتَرَى أَن ننزل على حكم مُحَمَّد؟ فَقَالَ: نعم، وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى حلقه، إِنَّه الذّبْح إِن فَعلْتُمْ. ثمَّ نَدم أَبُو لبَابَة فِي الْحِين، وَعلم أَنه خَان اللَّه وَرَسُوله، وَأَنه أَمر لَا يستره اللَّه عَن نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَانْطَلق إِلَى الْمَدِينَة وَلم يرجع إِلَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَربط نَفسه فِي سَارِيَة١، وَأقسم لَا يبرح مَكَانَهُ حَتَّى يَتُوب اللَّه عَلَيْهِ. فَكَانَت امْرَأَته تحله لوقت كل صَلَاة. قَالَ ابْن عُيَيْنَة وَغَيره: فِيهِ نزلت: {يَا أَيهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُول وتخونوا أماناتكم} . وَأقسم أَن لَا يدْخل أَرض بني قُرَيْظَة أبدا، مَكَانا أصَاب فِيهِ الذَّم٢. فَلَمَّا بلغ ذَلِك النبيَّ من فعل أبي لبَابَة قَالَ: "أما إِنَّه لَو أَتَانِي لاستغفرت لَهُ، وَأما إِذا فعل فلست أُطْلِقُهُ حَتَّى يُطلقهُ اللَّه" فَأنْزل اللَّه تَعَالَى فِي أَمر أبي لبَابَة: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ ... } الْآيَة فَلَمَّا نزل فِيهِ الْقُرْآن أَمر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلَاقِهِ*.

وَنزل -فِي تِلْكَ اللَّيْلَة الَّتِي فِي صبيحتها نزلت بَنو قُرَيْظَة على حكم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَعْلَبَة، وَأسيد٣ ابْنا سعية، وَأسد بْن عبيد، وهم نفر من هدل بني عَم قُرَيْظَة وَالنضير وَلَيْسوا من قُرَيْظَة وَالنضير، نزلُوا مُسلمين، فأحرزوا أَمْوَالهم وأنفسهم. وَخرج فِي تِلْكَ اللَّيْلَة عَمْرو بْن سعدي [الْقرظِيّ] ٤ وَمر بحرس رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيهِ مُحَمَّد بْن مسلمة


١ سَارِيَة: عَمُود من أعمدة الْمَسْجِد.
٢ اخْتلف فِي السبت الَّذِي من أَجله صنع أَبُو لبَابَة مَا صنع ندما وطلبا للمغفرة، فَقيل كَمَا هُنَا بِسَبَب حادثته مَعَ بني قُرَيْظَة وَقيل لِأَنَّهُ تخلف عَن غَزْوَة تَبُوك فَنزلت فِيهِ الْآيَة: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا} انْظُر الِاسْتِيعَاب ص٦٧٥.
* قلت: وَإِنَّمَا أطلقهُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَة لِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {عَسى الله أَن يَتُوب عَلَيْهِم} وَعَسَى من الله وَاجِبَة. وَجَاء فِي الْخَبَر أَنه لما نزلت تَوْبَته جَاءَت فَاطِمَة تحله، فَقَالَ: إِنِّي حَلَفت أَن لَا يُحِلنِي إِلَّا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَئِذٍ: "فَاطِمَة بضعَة "قِطْعَة" مني". "وَفِي رِوَايَة أُخْرَى فِي صَحِيح مُسلم بشرح النَّوَوِيّ: "ومضغة مني" فَإِن قلت: فَلَو اتّفق مثل ذَلِك هَل كَانَ الْحَالِف يبر بِفعل ذَلِك الْمَحْلُوف عَلَيْهِ؟ قلت: لَا، إِمَّا لِأَن هَذَا خَاص، وَإِمَّا لِأَن فَاطِمَة بضعَة من الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قطعا لِأَنَّهُ حرسها الْوَحْي، وَأما ولد غير الْأَنْبِيَاء فَلَا يقطع بِأَنَّهُ ابْن أَبِيه، وَإِن طابقه، وَالله مُتَوَلِّي السرائر، وَلِهَذَا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ لما نزل قَوْله تَعَالَى: {يعرفونه كَمَا يعْرفُونَ أَبْنَاءَهُم} : وَالله إِنِّي لأعرفه أَكثر مِمَّا أعرف ابْني؛ لِأَنِّي أعرفهُ يَقِينا بالمعجزات والآيات، وَأما ابْني فَلَا أَدْرِي مَا صنع النِّسَاء. رَجَعَ الْكَلَام.
٣ بِفَتْح الْهمزَة وَكسر السِّين عِنْد أَكثر الروَاة، وَبِفَتْحِهَا مَعَ ضم الْهمزَة عِنْد نفر مِنْهُم.
٤ زِيَادَة من ابْن هِشَام.

<<  <   >  >>