للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

والرّتيلات، والدّبّابات، وآلة النّفّاط، وغير ذلك ممّا يطول ذكره.

وكانوا أصحاب حكمة ولم يكونوا فعلة؛ يصوّرون الآلة، ويخرطون الأداة، ويصوغون المثل ولا يحسنون العمل بها، ويشيرون إليها ولا يمسّونها، ويرغّبون في العلم ويرغبون عن العمل.

فأمّا سكّان الصين فهم أصحاب السّبك والصياغة، والإفراغ والإذابة والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط والنّحت والتصاوير، والنّسخ والخطّ، ورفق الكفّ في كلّ شيء يتولّونه ويعانونه، وإن اختلف جوهره، وتباينت صنعته، وتفاوت ثمنه.

واليونانيون يعرفون الفلك، لأنّ أولئك حكماء وهؤلاء فعلة. وكذلك العرب، لم يكونوا تجّارا ولا صنّاعا، ولا أطبّاء ولا حسّابا، ولا أصحاب فلاحة فيكونون مهنة، ولا أصحاب زرع، لخوفهم من صغار الجزية. ولم يكونوا أصحاب جمع وكسب، ولا أصحاب احتكار لما في أيديهم وطلب ما عند غيرهم، ولا طلبوا المعاش من ألسنة الموازين ورؤوس المكاييل، [ولا عرفوا الدّوانيق والقراريط، ولم يفتقروا الفقر المدقع الذي يشغل عن المعرفة] ، ولم يستغنوا الغنى الذي يورث البلدة، والثروة التي تحدث الغرّة، ولم يحتملوا ذلّا قطّ فيميت قلوبهم ويصغّر عندهم أنفسم. وكانوا سكان فياف وتربية العراء، ولا يعرفون الغمق ولا اللنق، ولا البخار ولا الغلظ ولا العفن، ولا التّخم. أذهان جداد، ونفوس منكرة، فحين حملوا حدّهم ووجّهوا قواهم لقول الشّعر وبلاغة المنطق، وتشقيق اللغة وتصاريف الكلام، بعد قيافة الأثر وحفظ النّسب، والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآفاق، وتعرّف الأنواء، والبصر بالخيل والسّلاح وآلة الحرب، والحفظ لكلّ مسموع والاعتبار بكلّ محسوس، وإحكام شأن المثالب والمناقب، بلغوا في ذلك الغاية، وحازوا كلّ أمنيّة. وببعض هذه العلل صارت نفوسهم أكبر، وهممهم أرفع من جميع الأمم وأفخر، ولأيّامهم أحفظ وأذكر.

<<  <   >  >>