للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وذكر جعفر بن يحيى في مجلس ثمامة بن أشرس فقال: ما رأيت أحدا من خلق الله كان أبسط لسانا، ولا ألحن بحجة، ولا أقدر على كلام، بنظم حسن، وألفاظ عذبة، ومنطق فصيح، من جعفر بن يحيى، كان لا يتوقّف، ولا يتحبّس، ولا يصل كلامه بحشو من الكلام، ولا يعبد لفظا ولا معنى، ولا يخرج من فنّ إلى غيره، حتى يبلغ آخر ما فيه؛ وكان لا يرى شيئا إلا حكاه، ولا يحكى شيئا إلا كان أكثر منه، ولا يمرّ بذهنه شىء إلا حفظه، وكان إذا شاء أضحك الثّكلى، وأذهل الزاهد، وخشّن قلب العابد.

قلت: فكيف كانت معرفته؟ قال: كان من أعلم النّاس بالخبر الباهر، والشعر النادر، والمثل السائر، والفصاحة التامة، واللسان البسيط.

قال سهل بن هارون، وذكر يحيى بن خالد وابنه جعفرا، فقال: لو كان الكلام متصوّرا درّا، ويلقيه المنطق جوهرا، لكان كلامهما، والمنتقى من ألفاظهما. ولقد غبرت معهما، وأدركت طبقة المتكلمين في أيامهما، وهم يرون البلاغة لم تستكمل إلا فيهما، ولم تكن مقصورة إلا عليهما، ولا انقادت إلا لهما. وإنهما للباب الكرم، عتق منظر، وجودة مخبر، وسهولة لفظ، وجزالة منطق، ونزاهة نفس، وكمال خصال؛ حتى لو فاخرت الدنيا بقليل أيامهما، والمأثور من خصائصها جميع أيام من سواهما من لدن آدم إلى أن ينفخ في الصور، ويبعث أهل القبور- حاشا أنبياء الله الكرام، وسلف عباده الصالحين- لما باهت إلا بهما، ولا عوّلت في الفخر إلا عليهما، ولقد كانا- مع تهذيب أخلاقهما، ومعسول مذاقهما، وسنا إشراقهما، وكمال الخير فيهما- فى محاسن المأمون كالنّقطة في البحر، والخردل في القفر ووقّع جعفر بن يحيى لرجل اعتذر عنده من ذنب: قد قدمت طاعتك، وظهرت نصيحتك، ولا تغلب سيئة حسنتين.

<<  <  ج: ص:  >  >>