للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الموت عدلا؛ فالعاقل من رقّع من جوانب الدهر ما ساء بما سرّ، ليذهب ما نفع بما ضرّ؛ فإن أحبّ ألّا يحزن فلينظر يمنة، هل يرى إلا محنة، ثم ليعطف يسرة، هل يرى إلّا حسرة؟ ومثل الشيخ الرئيس- أطال الله بقاءه! - من فطن لهذه الأسرار، وعرف هذه الديار، فأعدّ لنعيمها صدرا لا يملؤه فرحا، ولبؤسها قلبا لا يطيره ترحا؛ وصحب البريّة برأى من يعلم أنّ للمتعة حدّا، وللعاريّة ردّا، ولقد نعى إلىّ أبو قبيصة قدّس الله روحه، وبرّد ضريحه، فعرضت علىّ آمالى قعودا، وأمانىّ سودا، وبكيت، والسخىّ جوده بما يملك، وضحكت، وشرّ الشدائد ما يضحك، وعضضت الأصبع حتى أدميته، وذممت الموت حتى تمنّيته؛ والموت أطال الله بقاء الشيخ الرئيس خطب قد عظم حتى هان، وأمر قد خشن حتى لان، ونكر قد عمّ حتى عاد عرفا؛ والدنيا قد تنكّرت حتى صار الموت أخفّ خطوبها، وقد خبثت حتى صار أقلّ عيوبها، ولعل هذا السهم قد صاب آخر ما في كنانتها، وأنكأ ما في خزانتها، ونحن معاشر التّبع نتعلم الأدب من اخلاقه، والجميل من أفعاله، فلا نحثّه على الجميل وهو الصبر، ولا نرغّبه في الجزيل وهو الأجر؛ فلير فيهما رأيه إن شاء الله.

وله إلى بعض إخوانه جوابا عن كتاب كتبه يهنّيه بمرض أبى بكر الخوارزمى وكانت بينهما مقارعة، ومنازعة، ومنافرة، ومهاترة؛ ولهما مجالس مستظرفة قهره البديع فيها وبهره، وبكّته حتى أسكته، ليس هذا موضعها، لكنى أذكر بعد هذه الرسالة بعض مكاتبات جرت بينهما؛ إذ كان ما لهما من الابتداء والجواب آخذا بوصل الحكمة وفصل الخطاب:

الحرّ أطال الله بقاءك- لا سيما إذا عرف الدهر معرفتى، ووصف أحواله صفتى- إذا نظر علم أنّ نعم الدّهر ما دامت معدومة فهى أمانىّ، وإن وجدت فهى عوارى، وأنّ محن الأيام وإن طالت فستنفد، وإن لم تصب فكأنّ قد، فكيف يشمت بالمحنة من لا يأمنها في نفسه، ولا يعدمها في جنسه، والشامت

<<  <  ج: ص:  >  >>