للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وكنت كسبت ثلاثين ألف دينار، فخفت أن يفجأنى الصارف، ويسعى إليه بالمال، فصغته عشرة آلاف إهليلجة «١» فى كل إهليلجة ثلاثة مثاقيل، وجعلتها في رحلى، ولم أبعد أن جاء الصارف؛ فركبت البحر، وانحدرت إلى البصرة؛ فخبّرت أن بها الجاحظ، وأنه عليل؛ فأحببت أن أراه قبل وفاته، فصرت إليه، فأفضيت إلى باب دار لطيف، فقرعته، فخرجت إلىّ خادم صفراء، فقالت: من أنت؟ فقلت: رجل غريب أحبّ أن يدخل إلى الشيخ فيسرّ بالنظر إليه، فأدت ما قلت، وكانت المسافة قريبة لصغر الدهليز والحجرة، فسمعته يقول:

قولى له: وما تصنع بشق مائل، ولعاب سائل، ولون حائل؟ فأخبرتنى، فقلت:

لا بدّ من الوصول إليه، فقال: هذا رجل قد اجتاز بالبصرة، فسمع بى وبعلتى، فقال: أراه قبل موته؛ لأقول: قد رأيت الجاحظ.

فدخلت فسلمت فردّ ردّا جميلا واستدنانى، وقال: من تكون؟ أعزك الله! فانتسبت له، فقال: رحم الله أباك وقومك الأسخياء الأجواد، الكرام الأمجاد، لقد كانت أيامهم روض الأزمنة، ولقد انجبر بهم خلق، فسقيا لهم ورعيا؛ فدعوت له، وقلت: أنا أسأل الشيخ أن ينشدنى شيئا من الشعر أذكره به، فأنشدنى:

لئن قدّمت قبلى رجال فطالما ... مشيت على رسلى فكنت المقدّما

ولكنّ هذا الدهر تأتى ضروفه ... فتبرم منقوضا، وتنقض مبرما

ثم نهضت، فلما قاربت الدهليز صاح بى فقال: يا فتى؛ أرأيت مفلوجا ينفعه الإهليلج؟ فقلت: لا، قال: فأنا ينفعنى الإهليلج الذى معك، فأنفذ إلىّ منه، فقلت: السمع والطاعة، وخرجت مفرط التعجب من وقوعه على خبرى، حتى كأنّ بعض أحبابى كاتبه بخبرى حين صغته، فأنفذت إليه مائة إهليلجة.

<<  <  ج: ص:  >  >>