للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الْمَسْأَلَةُ الثامنة حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ لِمَصْلَحَةِ الْحُكْمِ]

الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ

اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا يَجُوزُ نَقْضُهُ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ لِمَصْلَحَةِ الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ لَوْ جَازَ نَقْضُ حُكْمِهِ إِمَّا بِتَغَيُّرِ اجْتِهَادِهِ، أَوْ بِحُكْمِ حَاكِمٍ آخَرَ، لَأَمْكَنَ نَقْضُ الْحُكْمِ بِالنَّقْضِ وَنَقْضُ النَّقْضِ إِلَى غَيْرِ النِّهَايَةِ. وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ اضْطِرَابُ الْأَحْكَامِ وَعَدَمُ الْوُثُوقِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَصْلَحَةِ الَّتِي نُصِبَ الْحَاكِمُ لَهَا.

وَإِنَّمَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ بِأَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ مُخَالِفًا لِدَلِيلٍ قَاطِعٍ مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ، وَهُوَ مَا كَانَتِ الْعِلَّةُ فِيهِ مَنْصُوصَةً أَوْ كَانَ قَدْ قُطِعَ فِيهِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ كَمَا سَبَقَ تَحْقِيقُهُ (١) ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ مُخَالِفًا لِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ مِنْ نَصٍّ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَا يُنْقَضُ مَا حُكِمَ بِهِ بِالظَّنِّ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الرُّتْبَةِ.

. (٢) وَلَوْ حُكِمَ عَلَى خِلَافِ اجْتِهَادِهِ مُقَلِّدًا لِمُجْتَهِدٍ آخَرَ فَقَدِ اتَّفَقُوا عَلَى امْتِنَاعِهِ وَإِبْطَالِ حُكْمِهِ، وَلَوْ كَانَ الْحَاكِمُ مُقَلِّدًا لِإِمَامٍ وَحَكَمَ بِحُكْمٍ يُخَالِفُ مَذْهَبَ إِمَامِهِ، فَإِنْ قَضَيْنَا بِصِحَّةِ حُكْمِ الْمُقَلِّدِ ضَرُورَةَ عَدَمِ الْمُجْتَهِدِ فِي زَمَانِنَا، فَنَقْضُ حُكْمِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِ إِمَامِهِ؟ فَإِنْ مَنَعْنَا مِنْ ذَلِكَ نُقِضَ، وَإِلَّا فَلَا.

وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ إِذَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إِلَى حُكْمٍ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَتَجْوِيزِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ بِلَا وَلِيٍّ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَإِمَّا أَنْ يَتَّصِلَ بِذَلِكَ حُكْمُ حَاكِمٍ آخَرَ، أَوْ لَا يَتَّصِلَ.

فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ: لَمْ يُنْقَضِ الِاجْتِهَادُ السَّابِقُ ; نَظَرًا إِلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ وَمَصْلَحَتِهِ.

وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ: لَزِمَهُ مُفَارَقَةُ الزَّوْجَةِ، وَإِلَّا كَانَ مُسْتَدِيمًا لِحِلِّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا عَلَى خِلَافِ مُعْتَقَدِهِ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ.

وَأَمَّا إِنْ كَانَ قَدْ أَفْتَى بِذَلِكَ لِغَيْرِهِ، وَعَمِلَ ذَلِكَ الْغَيْرُ بِفَتْوَاهُ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ، فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الْمُقَلِّدَ هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ مُفَارَقَةُ الزَّوْجَةِ لِتَغَيُّرِ اجْتِهَادِ مُفْتِيهِ؟ وَالْحَقُّ وُجُوبُهُ، كَمَا لَوْ قَلَّدَ مَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيهَا، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ إِلَى جِهَةٍ أُخْرَى فِي أَثْنَاءِ صَلَاةِ الْمُقَلِّدِ لَهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّحَوُّلُ إِلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى كَمَا لَوْ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ هُوَ فِي نَفْسِهِ.


(١) انْظُرِ الْبَابَ الثَّالِثَ فِي أَقْسَامِ الْقِيَاسِ وَأَنْوَاعِهِ.
(٢) هَذَا تَعْلِيلٌ آخَرُ لِلْمَنْعِ مِنْ نَقْضِ حُكْمِ الْحَاكِمِ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>