للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

احْتَجَّ الْمُتَكَلِّمُونَ بِأَنَّ مُمْتَثِلَ التَّكْلِيفِ مُطِيعٌ، وَالطَّاعَةُ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ مُسْتَلْزِمَةٌ لِلثَّوَابِ عَلَى مَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} وَقَالَ تَعَالَى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} وَلَا فِعْلَ عَدَمٌ مَحْضٌ وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَمَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لَا يَكُونُ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ وَلَا مُتَعَلِّقِ الْقُدْرَةِ، وَمَا لَا يَكُونُ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ لَا يَكُونُ مُثَابًا عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} .

فَإِنْ قِيلَ: عَدَمُ الْفِعْلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمْرًا وُجُودِيًّا وَلَا ذَاتًا ثَابِتَةً، فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ التَّكْلِيفُ بِهِ وَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الِامْتِثَالُ بِهِ طَاعَةً وَحَسَنَةً مُثَابًا عَلَيْهَا أَنْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ وَمُكْتَسَبًا لَهُ، وَهُوَ غَيْرُ مُسْلِمٍ كَمَا قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ (١) .

قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ: عَدَمُ الْفِعْلِ مِنْ حَيْثُ هُوَ كَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ قَبْلَ قُدْرَةِ الْعَبْدِ (٢) وَهُوَ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلْعَبْدِ قَبْلَ خَلْقِ قُدْرَتِهِ وَهُوَ مُسْتَمِرٌّ إِلَى مَا بَعْدَ خَلْقِ الْقُدْرَةِ، فَلَا يَكُونُ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ وَلَا مُكْتَسَبًا لَهُ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ امْتِنَاعُ التَّكْلِيفِ بِهِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ.

إِلَّا أَنَّ لِلْخَصْمِ أَنْ يَقُولَ، لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ عَدَمِ الْفِعْلِ السَّابِقِ عَلَى خَلْقِ الْقُدْرَةِ غَيْرَ مَقْدُورٍ أَنْ يَكُونَ الْمُقَارَنُ مِنْهُ مَقْدُورًا (٣) .

[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ قَبْلَ حُدُوثِهِ]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ

اتَّفَقَ النَّاسُ عَلَى جَوَازِ التَّكْلِيفِ بِالْفِعْلِ قَبْلَ حُدُوثِهِ سِوَى شُذُوذٍ مِنْ أَصْحَابِنَا وَعَلَى امْتِنَاعِهِ بَعْدَ حُدُوثِ الْفِعْلِ.

وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَعَلُّقِهِ بِهِ فِي أَوَّلِ زَمَانِ حُدُوثِهِ فَأَثْبَتَهُ أَصْحَابُنَا، وَنَفَاهُ الْمُعْتَزِلَةُ.

احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْفِعْلَ فِي أَوَّلِ زَمَانِ حُدُوثِهِ مَقْدُورٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَسَوَاءٌ قِيلَ بِتَقَدُّمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، أَمْ بِوُجُودِهَا مَعَ وُجُودِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا (٤) وَإِذَا كَانَ مَقْدُورًا أَمْكَنَ تَعَلُّقُ التَّكْلِيفِ بِهِ:


(١) جَوَابُ قَوْلِهِ: فَإِنْ قِيلَ.
(٢) مُرَادُهُمُ الْقُدْرَةُ الَّتِي بِمَعْنَى التَّوْفِيقِ، لَا الَّتِي بِمَعْنَى تَوَفُّرِ الْأَسْبَابِ وَالْآلَاتِ، فَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ قَبْلَ الْفِعْلِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ مَقْدُورًا لِلْعَبْدِ.
(٣) بَلْ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ الَّتِي بِمَعْنَى التَّوْفِيقِ الْمُقَارِنَةِ لِلْفِعْلِ أَلَّا تَكُونَ مَقْدُورًا ; لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مَنَاطًا لِلتَّكْلِيفِ بِخِلَافِ الْقُدْرَةِ، بِمَعْنَى تَوَفُّرِ الْأَسْبَابِ، فَإِنَّهَا قَدْ تَكُونُ حَالَ عَدَمِ الْفِعْلِ، وَهِيَ مَنَاطُ التَّكْلِيفِ.
(٤) انْظُرِ التَّعْلِيقَ ص ١٣٤. ٨

<<  <  ج: ص:  >  >>