للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ دُونَ ذِكْرِ سَبَبِهِمَا]

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ

اخْتَلَفُوا فِي قَبُولِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ دُونَ ذِكْرِ سَبَبِهِمَا فَقَالَ قَوْمٌ: لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ السَّبَبِ فِيهِمَا، أَمَّا فِي الْجَرْحِ فَلِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيمَا يُجْرَحُ بِهِ، فَلَعَلَّهُ اعْتَقَدَهُ جَارِحًا وَغَيْرُهُ لَا يَرَاهُ جَارِحًا، وَأَمَّا فِي الْعَدَالَةِ فَلِأَنَّ مُطْلَقَ التَّعْدِيلِ لَا يَكُونُ مُحَصِّلًا لِلثِّقَةِ بِالْعَدَالَةِ لِجَرْيِ الْعَادَةِ بِتَسَارُعِ النَّاسِ إِلَى ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ.

وَقَالَ قَوْمٌ: لَا حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ فِيهِمَا اكْتِفَاءً بِبَصِيرَةِ الْمُزَكِّي وَالْجَارِحِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْقَاضِي أَبَى بَكْرٍ.

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ) " لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ سَبَبِ الْجَرْحِ، لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِيمَا يُجْرَحُ بِهِ، بِخِلَافِ الْعَدَالَةِ فَإِنَّ سَبَبَهَا وَاحِدٌ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ ".

وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ الْحَالَ وَاعْتَبَرَ ذِكْرَ سَبَبِ الْعَدَالَةِ دُونَ الْجَرْحِ، وَالْمُخْتَارُ إِنَّمَا هُوَ مَذْهَبُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُزَكِّي وَالْجَارِحُ عَدْلًا بَصِيرًا بِمَا يَجْرَحُ بِهِ وَيَعْدِلُ، أَوْ لَا يَكُونَ كَذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَدْلًا، أَوْ كَانَ عَدْلًا وَلَيْسَ بَصِيرًا، فَلَا اعْتِبَارَ بِقَوْلِهِ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا بَصِيرًا وَجَبَ الِاكْتِفَاءُ بِمُطْلَقِ جَرْحِهِ وَتَعْدِيلِهِ، إِذِ الْغَالِبُ مَعَ كَوْنِهِ عَدْلًا بَصِيرًا أَنَّهُ مَا أَخْبَرَ بِالْعَدَالَةِ وَالْجَرْحِ إِلَّا وَهُوَ صَادِقٌ فِي مَقَالِهِ، فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ إِظْهَارِ السَّبَبِ مَعَ ذَلِكَ.

وَالْقَوْلُ بِأَنَّ النَّاسَ قَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا يُجْرَحُ بِهِ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا إِلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْعَدْلِ الْبَصِيرِ بِجِهَاتِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ أَنَّهُ أَيْضًا يَكُونُ عَارِفًا بِمَوَاقِعِ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ.

وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ الْجَرْحُ إِلَّا فِي صُورَةٍ عُلِمَ الْوِفَاقُ عَلَيْهَا (١) وَإِلَّا كَانَ مُدَلِّسًا مُلَبِّسًا بِمَا يُوهِمُ الْجَرْحُ عَلَى مَنْ لَا يَعْتَقِدُهُ، وَهُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الْعَدَالَةِ وَالدِّينِ، وَبِمِثْلِ هَذَا يَظْهَرُ أَنَّهُ مَا أَطْلَقَ التَّعْدِيلَ إِلَّا بَعْدَ الْخِبْرَةِ الْبَاطِنَةِ وَالْإِحَاطَةِ بِسَرِيرَةِ الْمُخْبِرِ عَنْهُ، وَمَعْرِفَةِ اشْتِمَالِهِ عَلَى سَبَبِ الْعَدَالَةِ دُونَ الْبِنَاءِ عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ.


(١) هَذَا خِلَافُ الْوَاقِعِ فَقَدْ وُجِدَ مَنْ أَطْلَقَ الْجَرْحَ كَشُعْبَةَ، فَلَمَّا اسْتُفْسِرَ فَسَّرَهُ بِمَا فِي الْجَرْحِ بِهِ خِلَافٌ، انْظُرْ كَلَامَ شُرَّاحِ أَلْفِيَّةِ الْعِرَاقِيِّ لِلْأَبْيَاتِ الْآتِيَةِ:
وَلَمْ يَرَوْا قَبُولَ جَرْحٍ أَبْهَمَا - لِلْخُلْفِ فِي أَسْبَابِهِ وَرُبَّمَا اسْتُفْسِرَ الْجَرْحُ فَلَمْ يَقْدَحْ كَمَا - فَسَّرَهُ شُعْبَةُ بِالرَّكْضِ فَمَا هَذَا الَّذِي عَلَيْهِ حُفَّاظُ الْأَثَرِ - كَشَيْخِي الصَّحِيحِ مَعَ أَهْلِ النَّظَرِ اهـ. وَلَيْسَ ذَلِكَ تَدْلِيسًا؛ لِأَنَّهُ جَرَحَ الرَّاوِيَ بِمَا هُوَ جَرْحٌ فِي نَظَرِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>