للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَرْعَ عَدْلٌ، وَهُوَ جَازِمٌ بِرِوَايَتِهِ عَنِ الْأَصْلِ، غَيْرُ مُكَذِّبٍ لَهُ وَهُمَا عَدْلَانِ، فَوَجَبَ قَبُولُ الرِّوَايَةِ وَالْعَمَلُ بِهَا.

الثَّانِي: أَنَّ نِسْيَانَ الْأَصْلِ الرِّوَايَةُ لَا تَزِيدُ عَلَى مَوْتِهِ وَجُنُونِهِ، وَلَوْ مَاتَ أَوْ جُنَّ، كَانَتْ رِوَايَةُ الْفَرْعِ عَنْهُ مَقْبُولَةً، وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا إِجْمَاعًا فَكَذَلِكَ إِذَا نَسِيَ.

فَإِنْ قِيلَ: أَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِقَضِيَّةِ رَبِيعَةَ، فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِاحْتِمَالِ أَنَّ سُهَيْلًا ذَكَرَ الرِّوَايَةَ بِرِوَايَةِ رَبِيعَةَ عَنْهُ وَمَعَ الذِّكْرِ، فَالرِّوَايَةُ تَكُونُ مَقْبُولَةً.

ثُمَّ هُوَ مُعَارَضٌ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ قَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، (أَمَا تَذْكُرُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَمَّا كُنَّا فِي الْإِبِلِ، فَأَجْنَبْتُ فَتَمَعَّكْتُ فِي التُّرَابِ، ثُمَّ سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّمَا يَكْفِيكَ أَنْ تَضْرِبَ بِيَدَيْكَ» (١) فَلَمْ يَقْبَلْ عُمَرُ مِنْ عَمَّارٍ مَا رَوَاهُ، مَعَ كَوْنِهِ عَدْلًا عِنْدَهُ، لِمَا كَانَ نَاسِيًا لَهُ.

وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنَ الْمَعْقُولِ، فَالْأَصْلُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَذِّبًا لِلْفَرْعِ، غَيْرَ أَنَّ نِسْيَانَهُ لِمَا نُسِبَ إِلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنَ الْعَمَلِ بِهِ، كَمَا لَوِ ادَّعَى مُدَّعٍ أَنَّ الْحَاكِمَ حَكَمَ لَهُ بِشَيْءٍ، فَقَالَ الْحَاكِمُ: لَا أَذْكُرُ ذَلِكَ، فَأَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدَيْنِ شَهِدَا بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَنْكَرَ شَاهِدُ الْأَصْلِ شَهَادَةَ الْفَرْعِ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ النِّسْيَانِ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ.

الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّ سُهَيْلًا ذَكَرَ الرِّوَايَةَ، قُلْنَا لَوْ كَانَ كَذَلِكَ، لَانْطَوَى ذِكْرُ رَبِيعَةَ، وَكَانَ يَرْوِي عَنْ شَيْخِهِ، كَمَا لَوْ نَسِيَ، ثُمَّ تَذَكَّرَ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا رَدُّ عُمَرَ لِرِوَايَةِ عَمَّارٍ عِنْدَ نِسْيَانِهِ، فَلَيْسَ نَظِيرًا لِمَا نَحْنُ فِيهِ، فَإِنَّ عَمَّارًا لَمْ يَكُنْ رَاوِيًا عَنْ عُمَرَ، بَلْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَيْثُ لَمْ يَعْمَلُ عُمَرُ بِرِوَايَتِهِ فَلَعَلَّهُ كَانَ شَاكًّا فِي رِوَايَتِهِ أَوْ كَأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَذْهَبًا لَهُ، فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى مَا سَيَأْتِي تَقْرِيرُهُ.


(١) أَثَرُ مُحَاجَّةِ عَمَّارٍ لِعُمَرَ فِي تَيَمُّمِ الْجُنُبِ، رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي الْمُسْنَدِ، وَأَمَّا حَدِيثُ تَعْلِيمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّارًا صِفَةَ التَّيَمُّمِ فَمَرْوِيٌّ فِي الصَّحِيحَيْنِ

<<  <  ج: ص:  >  >>