للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ، وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، كَالْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ وَغَيْرِهِمُ: الْأَمْرُ هُوَ الْقَوْلُ الْمُقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَقَوْلُهُمُ (الْقَوْلُ) كَالْجِنْسِ لِلْأَمْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، وَقَوْلُهُمْ: (الْمُقْتَضِي طَاعَةَ الْمَأْمُورِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ) لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْأَمْرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، وَلِفَصْلِ الْأَمْرِ عَنِ الدُّعَاءِ وَالسُّؤَالِ.

وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ فِي الْحَدِّ (بِنَفْسِهِ) احْتِرَازًا عَنِ الصِّيغَةِ، فَإِنَّهَا لَا تَقْتَضِي الطَّاعَةَ بِنَفْسِهَا، بَلْ بِالتَّوْقِيفِ وَالِاصْطِلَاحِ وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيفِ الْأَمْرِ بِالْمَأْمُورِ وَالْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُمَا مُشْتَقَّانِ مِنَ الْأَمْرِ، وَالْمُشْتَقُّ مِنَ الشَّيْءِ أَخْفَى مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ، وَتَعْرِيفُ الشَّيْءِ بِمَا لَا يُعْرَفُ إِلَّا بَعْدَ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مُحَالٌ.

وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: الْأَمْرُ هُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ عَلَى وَجْهٍ يُعَدُّ فَاعِلُهُ مُطِيعًا، وَهُوَ أَيْضًا بَاطِلٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيفِ الْأَمْرِ بِالطَّاعَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْفِعْلِ، وَالطَّاعَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْفِعْلِ لَا تُعْرَفُ إِلَّا بِمُوَافَقَةِ الْأَمْرِ: وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ، كَيْفَ وَإِنَّ فِعْلَ الرَّبِّ تَعَالَى لِمَا طَلَبَهُ الْعَبْدُ مِنْهُ بِالسُّؤَالِ يُقَالُ لَهُ بِاعْتِبَارِ مُوَافَقَةِ طَلَبِ الْعَبْدِ مُطِيعًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ " «إِنْ أَطَعْتَ اللَّهَ أَطَاعَكَ» " أَيْ إِنْ فَعَلْتَ مَا أَرَادَ فَعَلَ مَا تُرِيدُ، وَلَيْسَ طَلَبُ الْعَبْدِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى بِجِهَةِ السُّؤَالِ لِلَّهِ أَمْرًا، إِذِ الْأَمْرُ لِلَّهِ قَبِيحٌ شَرَعًا، بِخِلَافِ السُّؤَالِ، وَيُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ بِمَا يُعَدُّ فَاعِلُهُ مُطِيعًا فِي الْعُرْفِ الْعَامِّ، وَالْبَارِي تَعَالَى لَيْسَ كَذَلِكَ.

وَالْأَقْرَبُ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ الْقَوْلُ الْجَارِي عَلَى قَاعِدَةِ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ، الْأَمْرُ طَلَبُ الْفِعْلِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ.

فَقَوْلُنَا: (طَلَبُ الْفِعْلِ) احْتِرَازٌ عَنِ النَّهْيِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَقْسَامِ الْكَلَامِ، وَقَوْلُنَا: (عَلَى جِهَةِ الِاسْتِعْلَاءِ) احْتِرَازٌ عَنِ الطَّلَبِ بِجِهَةِ الدُّعَاءِ وَالِالْتِمَاسِ.

فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُكُمُ (الْأَمْرُ هُوَ طَلَبُ الْفِعْلِ) إِنْ أَرَدْتُمْ بِهِ الْإِرَادَةَ، فَهُوَ مَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ، وَلَيْسَ مَذْهَبًا لَكُمْ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ غَيْرَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْوِيرِهِ، وَإِلَّا كَانَ فِيهِ تَعْرِيفُ الْأَمْرِ بِمَا هُوَ أَخْفَى مِنَ الْأَمْرِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>