للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَمَّا الْأَوَّلُ: فَبَيَانُهُ بِمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَيَزِيدُ هَاهُنَا وَجْهٌ آخَرُ فِي التَّرْجِيحِ، وَهُوَ أَنَّ الشَّارِعَ مَهْمَا ثَبَتَ لَهُ عُرْفٌ وَإِنْ كَانَتْ مُنَاطَقَتُهُ لَنَا بِالْأُمُورِ اللُّغَوِيَّةِ غَالِبًا، غَيْرَ أَنَّ مُنَاطَقَتَهُ لَنَا بِعُرْفِهِ فِي مَوْضِعٍ لَهُ فِيهِ عُرْفٌ أَغْلَبُ.

وَأَمَّا إِذَا وَرَدَ فِي طَرَفِ التَّرْكِ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «دَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» " (١) وَكَنَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الْحُرِّ وَالْخَمْرِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ وَالْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ اللَّفْظُ ظَاهِرًا فِي الصَّلَاةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْبَيْعِ الشَّرْعِيِّ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَصَوَّرًا لِاسْتِحَالَةِ النَّهْيِ عَمَّا لَا تَصَوُّرَ لَهُ، وَهُوَ خِلَافُ الْإِجْمَاعِ، وَأَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ (٢) قَدْ نَهَى عَنِ التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إِهْمَالِ الْمَصْلَحَةِ الْمُعْتَبَرَةِ الْمَرْعِيَّةِ فِي التَّصَرُّفِ الشَّرْعِيِّ (٣) أَوْ أَنْ يُقَالَ مَعَ ظُهُورِهِ فِي الْمُسَمَّى الشَّرْعِيِّ بِتَأْوِيلِهِ وَصَرْفِهِ إِلَى الْمُسَمَّى اللُّغَوِيِّ، وَهُوَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنَ اطِّرَادِ عُرْفِ الشَّرْعِ فِي هَذِهِ الْمُسَمَّيَاتِ فِي طَرَفِ الْإِثْبَاتِ، مِثْلُهُ فِي طَرَفِ النَّهْيِ أَوِ النَّفْيِ.

وَعَلَى مَا حَقَّقْنَاهُ مِنْ تَقْدِيمِ عُرْفِ الشَّرْعِ فِي خِطَابِهِ، عَلَى وَضْعِ اللُّغَةِ، فَيُقَدَّمُ مَا اشْتُهِرَ مِنَ الْمَجَازِ الَّذِي صَارَ لَا يُفْهَمُ مِنَ اللَّفْظِ غَيْرُهُ عَلَى الْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ الْحَقِيقِيِّ، وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ التَّجَوُّزُ بِطَرِيقِ نَفْيِ الْكَلَامِ مِنْ مَحَلِّ الْحَقِيقَةِ إِلَى مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ كَلَفْظِ الْغَائِطِ، أَوْ بِطَرِيقِ تَخْصِيصِهِ بِبَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ فِي الْحَقِيقَةِ، كَلَفْظِ الدَّابَّةِ لِأَنَّ الْعُرْفَ الطَّارِئَ غَالِبٌ لِلْوَضْعِ الْأَصْلِيِّ وَلَا إِجْمَالَ فِيهِ.


(١) هَذَا مَعْنَى جُزْءٍ مِنْ حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَبِي حُبَيْشٍ أَنَّهَا شَكَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الدَّمَ، فَقَالَ لَهَا: إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ فَانْتَظِرِي، إِذَا أَتَى قَرْؤُكِ فَلَا تُصَلِّي فَإِذَا مَرَّ قَرْؤُكِ فَتَطَهَّرِي، ثُمَّ صَلِّي مَا بَيْنَ الْقَرْءِ إِلَى الْقَرْءِ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ مَا ذَكَرَتْ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أُمَّ حَبِيبَةَ أَنْ تَدَعَ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا.
(٢) وَأَنْ يَكُونَ - مَعْطُوفٌ عَلَى فَاعِلِ لَزِمَ.
(٣) أُجِيبُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّرْعِيِّ الصَّحِيحَ شَرْعًا حَتَّى يَلْزَمَ مَا قِيلَ، بَلِ الْمُرَادُ مَا يُسَمِّيهِ الشَّرْعُ بِذَلِكَ الِاسْمِ مِنَ الْهَيْئَاتِ الْمَخْصُوصَةِ حَيْثُ يَقُولُ: هَذِهِ صَلَاةٌ صَحِيحَةٌ وَهَذِهِ صَلَاةٌ فَاسِدَةٌ، وَإِلَّا لَزِمَ فِي قَوْلِهِ: " وَدَعِي الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ " أَنْ يَكُونَ مُجْمَلًا بَيْنَ الصَّلَاةِ فِي عُرْفِ الشَّرْعِ وَالدُّعَاءِ، أَوْ يَكُونَ ظَاهِرًا فِي الدُّعَاءِ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ؛ لِظُهُورِهِ فِي الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، انْظُرِ الْمَسْأَلَةَ فِي مُخْتَصَرِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَشَرْحِهِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>