للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عُمُومِهِ إِلَّا بَعْدَ الْقَطْعِ بِانْتِفَاءِ الْمُخَصِّصِ، وَإِلَّا فَالْجَزْمُ بِعُمُومِهِ وَالْعَمَلُ بِهِ مَعَ احْتِمَالِ وُجُودِ الْمُعَارِضِ مُمْتَنِعٌ.

قَالَ: وَمَعْرِفَةُ انْتِفَاءِ الْمُخَصِّصِ بِطَرِيقِ الْقَطْعِ مُمْكِنٌ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ الْمُتَمَسِّكُ بِالْعُمُومِ فِيهَا مِمَّا كَثُرَ الْخِلَافُ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَطَالَ النِّزَاعُ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِيهَا، وَلَمْ يَطَّلِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى مُوجِبٍ لِلتَّخْصِيصِ، مَعَ كَثْرَةِ بَحْثِهِمْ وَاسْتِقْصَائِهِمْ.

وَلَوْ كَانَ ثَمَّ شَيْءٌ لَاسْتَحَالَ أَنْ لَا يُعْرَفَ عَادَةً، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْعُمُومِ الْخُصُوصَ لَاسْتَحَالَ أَنْ لَا يَنْصِبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلًا، وَيُبَلِّغَهُ لِلْمُكَلَّفِينَ.

وَذَهَبَ ابْنُ سُرَيْجٍ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ وَأَكْثَرُ الْأُصُولِيِّينَ إِلَى امْتِنَاعِ اشْتِرَاطِ الْقَطْعِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ.

وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ بِغَيْرِ الْبَحْثِ وَالسَّبْرِ، وَهُوَ غَيْرُ يَقِينِيٍّ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَمَّ مُخَصِّصٌ لَاطَّلَعَ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ غَيْرُ يَقِينِيٍّ لِجَوَازِ وُجُودِهِ مَعَ عَدَمِ اطِّلَاعِ أَحَدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ، (١) وَبِتَقْدِيرِ اطِّلَاعِ بَعْضِهِمْ عَلَيْهِ، فَنَقْلُهُ لَهُ أَيْضًا غَيْرُ قَاطِعٍ، بَلْ غَايَتُهُ أَنْ يَكُونَ ظَنِّيًّا.

كَيْفَ وَإِنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا وَرَدَ فِيهِ الْعَامُّ مِمَّا كَثُرَ خَوْضُ الْعُلَمَاءِ فِيهِ وَبَحْثُهُمْ عَنْهُ لِيَصِحَّ مَا قِيلَ.

وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْعَامِّ الْخُصُوصَ لَنَصَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ دَلِيلًا، غَيْرُ مُسَلَّمٍ. (٢) وَبِتَقْدِيرِ نَصْبِهِ لِلدَّلِيلِ، لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ اطِّلَاعِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَيْهِ.

وَبِتَقْدِيرِ ذَلِكَ لَا نُسَلِّمُ لُزُومَ نَقْلِهِمْ لَهُ (٣) وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إِلَى الْقَطْعِ بِذَلِكَ طَرِيقٌ فَلَوْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْعَمَلِ بِالْعُمُومِ لَتَعَطَّلَتِ الْعُمُومَاتُ بِأَسْرِهَا، وَإِذَا عُرِفَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الظَّنِّ بِانْتِفَاءِ الْمُخَصِّصِ، فَالْحَدُّ الَّذِي يَجِبُ الْعَمَلُ بِالْعُمُومِ عِنْدَهُ أَنْ يَبْحَثَ عَنِ الْمُخَصِّصِ بَحْثًا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُهُ وَأَنَّهُ لَوْ بَحَثَ عَنْهُ ثَانِيًا وَثَالِثًا كَانَ بَحْثُهُ غَيْرَ مُفِيدٍ.

وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْكَلَامُ فِي الْعَمَلِ بِكُلِّ دَلِيلٍ مَعَ مُعَارِضِهِ.


(١) جَوَازُ وُجُودِ الْمُخَصِّصِ لِلْعَامِّ مَعَ عَدَمِ اطِّلَاعِ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَيْهِ يُنَافِي عِصْمَةَ الْأُمَّةِ فِي إِجْمَاعِهَا وَيَرُدُّهُ أَيْضًا حَدِيثُ: " لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً عَلَى الْحَقِّ " الْحَدِيثَ.
(٢) يُجَابُ عَنْ مَنْعِ الْمُلَازَمَةِ بِأَنَّ نَصْبَ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْمُرَادِ مِمَّا أُرِيدَ بِهِ غَيْرُ ظَاهِرِهِ هُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ فَإِنَّ إِرَادَةَ الْخُصُوصِ مِنَ اللَّفْظِ الْعَامِّ دُونَ دَلِيلٍ تَلْبِيسٌ يُنَافِي حِكْمَةَ اللَّهِ وَعَدْلَهُ وَرَحْمَتَهُ بِعِبَادِهِ.
(٣) لُزُومُ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْمُخَصِّصِ وَنَقْلِهِ وَلَوْ مِنْ آحَادِ الْمُكَلَّفِينَ هُوَ مُقْتَضَى عِصْمَةِ الْأُمَّةِ وَالْأَحَادِيثُ الدَّالَةُ عَلَى الْعِصْمَةِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>