للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَكَذَلِكَ عَطَفَ الشَّاعِرُ الْمَاءَ عَلَى التِّبْنِ فِي قَوْلِهِ (عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا) (١) وَالْمَاءُ لَا يُعْلَفُ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي أَصْلِ التَّنَاوُلِ.

وَالْجَوَابُ، قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْعَطْفَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْأَيْدِي، فَأَبْعَدُ مِنْ كُلِّ بَعِيدٍ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْعَطْفِ عَلَى مَا يَلِي الْمَعْطُوفِ إِلَى مَا لَا يَلِيهِ.

وَأَمَّا التَّقْدِيرُ بِالْكَعْبَيْنِ فَمِمَّا لَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَطْفِ عَلَى الرُّءُوسِ الْمَمْسُوحَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْحُ الرُّءُوسِ مُقَدَّرًا فِي الْآيَةِ كَمَا عَطَفَ الْأَيْدِي عَلَى الْوُجُوهِ فِي حُكْمِ الْغَسْلِ، وَإِنْ كَانَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ مُقَدَّرًا وَغَسْلُ الْوُجُوهِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ.

وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَطْفًا عَلَى الْمَوْضِعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّءُوسَ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْخَافِضُ عَلَى الرُّءُوسِ، أَوْجَبَ الْكَسْرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:

مُعَاوِيَ إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ ... فَلَسْنَا بِالْجِبَالِ وَلَا الْحَدِيدَا

عَطْفُ (الْحَدِيدِ) عَلَى مَوْضِعِ (الْجِبَالِ) إِذْ هِيَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، غَيْرَ أَنَّهَا خُفِضَتْ بِدُخُولِ الْجَارِّ عَلَيْهَا.

قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْكَسْرَ بِسَبَبِ الْمُجَاوَرَةِ إِنَّمَا يَصِحُّ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْمُتَجَاوِرَيْنِ فَاصْلٌ كَمَا ذَكَرُوهُ مِنَ الشِّعْرِ، وَأَمَّا إِذَا فَصَلَ بَيْنَهُمَا حَرْفُ الْعَطْفِ فَلَا.

وَإِنْ سَلَّمْنَا جَوَازَهُ، غَيْرَ أَنَّهُ مِمَّا لَا يُتَحَمَّلُ إِلَّا لِضَرُورَةِ الشِّعْرِ فَلَا يَنْتَهِضُ مُوجِبًا لِاتِّبَاعِهِ، وَتَرْكِ مَا أَوْجَبَهُ الْعَطْفُ.

وَمِثْلُ ذَلِكَ، وَإِنْ وَرَدَ فِي النَّثْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ (جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ وَمَاءُ شَنٍّ بَارِدٍ) فَمِنَ النَّوَادِرِ الشَّاذَّةِ الَّتِي لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا.

قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْعَطْفَ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الرُّءُوسِ، فَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلِاشْتِرَاكِ فِي تَفَاصِيلِ حُكْمِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ.

قُلْنَا: هَذَا هُوَ الْأَصْلُ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إِلَى خِلَافِهِ لِدَلِيلٍ، وَلَا دَلِيلَ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذِهِ النُّبْذَةَ مِنْ مَسَائِلِ التَّأْوِيلَاتِ لِتُدَرِّبَ الْمُبْتَدِئِينَ بِالنَّظَرِ فِي أَمْثَالِهَا.

وَبِالْجُمْلَةِ، فَالْمُتَّبَعُ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ نَظَرُ الْمُجْتَهِدِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فَعَلَيْهِ اتِّبَاعُ مَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ.


(١) تَمَامُهُ (حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا) انْظُرْ هَذَا الْبَيْتَ وَمَا مَعَهُ مِنَ الْأَبْيَاتِ فِي بَابِ الْحَذْفِ وَالِاخْتِصَارِ مِنْ تَأْوِيلِ مُشْكِلِ الْقُرْآنِ لِابْنِ قُتَيْبَةَ.

<<  <  ج: ص:  >  >>