للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ نَسْخِ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ بِإِعْدَامِ الْعَقْلِ]

الْمَسْأَلَةُ الْعِشْرُونَ

اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ نَسْخِ جَمِيعِ التَّكَالِيفِ بِإِعْدَامِ الْعَقْلِ الَّذِي هُوَ شَرْطٌ فِي التَّكْلِيفِ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يُكَلِّفَ اللَّهُ أَحَدًا بِالنَّهْيِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ إِلَّا عَلَى رَأْيِ مَنْ يُجَوِّزُ التَّكْلِيفَ بِمَا لَا يُطَاقُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَكْلِيفَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ مَعْرِفَتِهِ يَسْتَدْعِي الْعِلْمَ بِنَهْيِهِ، وَالْعِلْمُ بِنَهْيِهِ يَسْتَدْعِي الْعِلْمَ بِذَاتِهِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْبَارِي تَعَالَى يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِنَهْيِهِ، فَإِذًا تَحْرِيمُ مَعْرِفَتِهِ مُتَوَقِّفٌ عَلَى مَعْرِفَتِهِ وَهُوَ دَوْرٌ مُمْتَنِعٌ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَمْرَيْنِ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ هَلْ يُتَصَوَّرُ نَسْخُ وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَشُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَنَسْخُ تَحْرِيمِ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ، وَكَذَلِكَ كَلُّ مَا قِيلَ بِوُجُوبِهِ لِحُسْنِهِ وَتَحْرِيمِهِ لِقُبْحِهِ فِي ذَاتِهِ؟ فَذَهَبَتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِنَاءً عَلَى فَاسِدِ أُصُولِهِمْ فِي اعْتِقَادِ الْحُسْنِ وَالْقُبْحِ الذَّاتِيِّ وَرِعَايَةِ الْحِكْمَةِ فِي أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى امْتِنَاعِ نَسْخِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْمُقْتَضَى لِوُجُوبِهَا وَتَحْرِيمِهَا إِنَّمَا هُوَ صِفَاتٌ ذَاتِيَّةٌ لَا يَجُوزُ تَبْدِيلُهَا وَلَا تَغْيِيرُهَا، وَنَحْنُ قَدْ أَبْطَلْنَا هَذِهِ الْأُصُولَ وَنَبَّهْنَا عَلَى فَسَادِهَا فِيمَا تَقَدَّمَ.

الثَّانِي: أَنَّهُ وَإِنَّ جَازَ نَسْخُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ فَبَعْدَ أَنْ كَلَّفَ اللَّهُ الْعَبْدَ هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَنْسَخَ عَنْهُ جَمِيعَ التَّكَالِيفِ أَوْ لَا؟

اخْتَلَفُوا فِيهِ نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَاخْتَارَ الْغَزَالِيُّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ مَصِيرًا مِنْهُ إِلَى أَنَّ الْمَنْسُوخَ عَنْهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ النَّسْخِ وَالنَّاسِخِ وَالدَّلِيلِ الْمَنْصُوبِ عَلَيْهِ. فَهَذَا النَّوْعُ مِنَ التَّكْلِيفِ لَا يُمْكِنُ نَسْخُهُ بَلْ هُوَ بَاقٍ بِالضَّرُورَةِ وَلَيْسَ بِحَقٍّ، فَإِنَّا وَإِنْ قُلْنَا بِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَحْصُلُ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ دُونَ عِلْمِهِ بِنُزُولِ النَّسْخِ فَلَا يَمْتَنِعُ تَحَقُّقُ النَّسْخِ لِجَمِيعِ التَّكَالِيفِ فِي حَقِّهِ عِنْدَ عِلْمِهِ بِالنَّسْخِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا بِمَعْرِفَةِ النَّسْخِ.

<<  <  ج: ص:  >  >>