للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فِيْهِ أَدنَى فَرَجٍ حَتَّى أُطلِقَ عَنْكَ بِيَدِي.

ثُمَّ رَجَعَ، وَقَالَ لِلْجَلاَّدِ: تقدَّمْ.

فَجَعَلَ يَضْرِبُنِي سَوطينِ، وَيتنحَّى، وَهُوَ فِي خلاَلِ ذَلِكَ يَقُوْلُ: شُدَّ، قطعَ اللهُ يدَك.

فَذَهَبَ عَقلِي، ثُمَّ أَفقتُ بَعْدُ، فَإذَا الأقيَادُ قد أطلقتْ عَنِّي.

فَقالَ لِي رَجُلٌ مِمَّن حضَرَ: كَبَبْنَاكَ عَلَى وَجْهِك، وَطَرحنَا عَلَى ظَهركَ بَارِيَّةً (١) وَدُسنَاكَ!

قَالَ أَبِي (٢) : فَمَا شعرتُ بِذَلِكَ، وَأَتَونِي بِسَوِيْقٍ، وَقَالُوا: اشربْ وَتَقَيَّأْ.

فَقُلْتُ: لاَ أُفطِرُ.

ثُمَّ جِيْءَ بِي إِلَى دَارِ إِسْحَاقَ بنِ إِبْرَاهِيْمَ، فَحضرتُ الظّهرَ، فَتَقَدَّمَ ابْنُ سِمَاعَةَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلاَتِه، وَقَالَ لِي: صَلَّيْتَ، وَالدَّمُ يَسيلُ فِي ثَوبِكَ؟

قُلْتُ: قَدْ صَلَّى عُمَرُ وَجُرحُه يَثعَبُ دَماً (٣) .

قَالَ صَالِحٌ: ثُمَّ خُلِّيَ عَنْهُ، فَصَارَ إِلَى مَنْزِلِهِ.

وَكَانَ مَكثُه فِي السجنِ (٤) مُنْذُ أُخذَ إِلَى أَنْ ضُربَ وَخُلِّيَ عَنْهُ، ثَمَانِيَةً وَعِشْرِيْنَ شَهْراً.

وَلَقَدْ حَدَّثَنِي أَحَدُ الرَّجلَينِ اللَّذينِ كَانَا مَعَهُ، قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، رَحْمَةُ اللهِ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللهِ، وَاللهِ مَا رَأَيْتُ أَحَداً يُشبِهُه، وَلَقَدْ جَعَلتُ أَقُوْلُ لَهُ فِي وَقْتِ مَا يُوجَّه إِلَينَا بِالطَّعَامِ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، أَنْتَ صَائِمٌ، وَأَنْتَ فِي مَوْضِعِ تَفِئَةٍ (٥) . وَلَقَدْ


(١) بكسر الراء، وفتح الياء المشددة: الحصير المنسوج، وهي فارسية الأصل.
(٢) ما بين حاصرتين من " تاريخ الإسلام "، وهو قال صالح بن الامام أحمد.
(٣) أخرجه مالك في " الموطأ " رقم (٧٩) : باب العمل فيمن غلبه الدم من جرح أو رعاف، من طريق هشام بن عروة، عن أبيه، أن المسور بن مخرمة أخبره أنه دخل على عمر بن الخطاب من الليلة التي طعن فيها، فأيقظ عمر لصلاة الصبح، فقال عمر: نعم، ولا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، فصلى عمر وجرحه يثعب دما، أي: يجري ويتفجر منه الدم.
(٤) ما بين حاصرتين من " تاريخ الإسلام ".
(٥) كذا الأصل، وفي " تاريخ الإسلام و" مناقب الامام أحمد " ص ٤٠٧: تقية وفي " الحلية " ٩ / ٢٠٣: " مسغبة ".
قال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: والتقية إنما تجوز للمستضعفين الذين يخشون أن لا يثبتوا على الحق، والذين ليسوا بموضع القدوة للناس، فهؤلاء يجوز لهم أن يأخذوا بالرخصة.
أما أولو العزم من الأئمة الهداة، فإنهم يأخذون بالعزيمة، ويحتملون الأذى، ويثبتون، وفي سبيل الله ما يلقون.
ولو أنهم أخذوا بالتقية، واستساغوا الرخصة، لضل الناس من ورائهم، يقتدون بهم، ولا يعلمون أن هذه تقية.