للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

العَبَّاسُ أَمرَ بَيْعَةِ المُقْتَدِرِ، وَمَلَكَ الأُمُورَ، وَعَلَّمَ النَّاسَ أَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيْدُ، فَتَفَرَّغُوا لَهُ، وَأَلحَقُوا بِهِ اللَّوْمَ، وَقَدْ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِأَنْ يَخْتَارَ لِلْخِلاَفَةِ رَجُلاً مَهِيْباً، وَإِنْ أَقَمْتَ مَن لَمْ يَخَفْهُ، لَمْ يَخَفْكَ، وَيَطْلُبُ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْكَ زِيَادَةَ رِزْقٍ، فَإِنْ مَنَعْتَهُ عَادَاكَ.

فَكَانَ الأَمْرُ كَذَلِكَ، وَفَسَدَ النَّاسُ، وَهُوَ مَعَ هَذَا ثَقِيْلٌ عَلَى قَلْبِ المُقْتَدِرِ وَأُمِّهِ وَحَاشِيَتِهَا؛ لِمَنْعِهِ لَهُمْ مِنْ أَشْيَاءَ.

وَكَانَ الحُسَيْنُ بنُ حَمْدَانَ الأَمِيْرُ يَزْعُمُ أَنَّ العَبَّاسَ دَسَّ مَنْ يُفْسِدُ جَارِيَتَهُ المُغَنِّيَةَ وَيُمَنِّيهَا، وَكَانَ ابْنُ حَمْدَانَ شَغِفاً بِهَا، وَكَانَ مُحَمَّدُ بنُ دَاوُدَ بنِ الجَرَّاحِ مُتَوَلِّي دِيْوَانَ الجَيْشِ، وَكَانَ الأُمَرَاءُ يُطِيعُونَهُ، فَشَغَبَهُم عَلَى العَبَّاسِ، وَوَاطَأَ مَنْ يَثِقُ بِهِ أَنَّهُ يُرِيْدُ أَنْ يُبَايِعَ ابْنَ المُعْتَزِّ، وَأَنَّ اِلمُقْتَدِرَ صَبِيٌّ.

وَكَانَ لأَحْمَدَ بنِ إِسْمَاعِيْلَ مَمْلُوْكٌ قَدْ عَتِبَ عَلَيْهِ، فَقَدَّمَ كِتَاباً إِلَى العَبَّاسِ، يُعْلِمُهُ أَنَّهُ رَاغِبٌ فِي الطَّاعَةِ، فَبَعَثَ يَعِدُهُ بِإِمرَةِ الأُمَرَاءِ - أَعنِي: المَمْلُوْكَ - فَسَارَ يُرِيْدُ الحَضْرَةَ فِي أَلْفَي فَارِسٍ، وَعَلِمَ العَبَّاسُ بِاضْطِرَابِ الأَمْرِ، فَقَالَ لَهُ المَرْزُبَانِيُّ عَلَى رُؤُوْسِ المَلأِ: أَعَزَّ اللهُ الوَزِيْرَ، اسْتَفْسَدْتَ مِثْلَ أَحْمَدَ بنِ إِسْمَاعِيْلَ لأَجْلِ مَمْلُوكِهِ بَارِس، وَلأَحْمَدَ أَلفُ غُلاَمٍ مِثْلُ بَارِس؟!

قَالَ: أَصْطَنِعُهُ، وَأُؤَمِّرُهُ، فَيَعْظُمَ؛ أَمَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجِيراً لِخَدِيْجَةَ، ثُمَّ كَانَ مِنْهُ مَا رَأَيْتَ.

قَالَ الصُّوْلِيُّ: لَوْلاَ أَنَّ أَحْمَدَ بنَ طُوْمَارٍ سَمِعَ هَذَا مِنْهُ، مَا صَدَّقْتُ.

فَخَرَجَ الحُسَيْنُ بنُ حَمْدَانَ يَقُوْلُ: أَوَجَدْتَنِي حُجَّةً؟ وَاللهِ لأَقْتُلَنَّكَ.

فَلَمَّا قَرُبَ بَارِس، خَافَ أَعدَاءُ العَبَّاسِ، فَعَزَمُوا عَلَى قَتْلِهِ فِي المَاءِ، فَرَكِبَ مَعَهُ أَمِيْرٌ فِي طَيَّارٍ (١) ، وَرَكِبَ عِدَّةٌ فِي طَيَّارَاتٍ


(١) الطيار: نوع من الزوارق، يدل اسمه على أنه سريع الجريان. قال جحظة البرمكي يعاتب وزيرا:
قل للوزير أدام الله دولته * اذكر منادمتي والخبز خشكار
إذ ليس بالباب برذون لدولتكم * ولا غلام ولا في الشط طيار
انظر " تجارب الأمم " ١ / ٢٦٨، وما كتبه أحمد تيمور في مجلة المجمع العلمي العربي م ٢ / ج ١١.