للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قالوا: فهذا لا يسأل عما يفعل فهو يفعل بقدرته ومشيئته أي بقهره وسلطانه، والجواب أن نقول معنى الحديث، معنى الآية لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته، وأما العباد فهم يسألون؛ لأنهم مأمورون، منهيون عباد مكلفون. أما الرب فلا يسأل لكمال حكمته وعدله سبحانه وتعالى.

واستدلوا بحديث ابن مسعود: (ما أصاب العبد قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاءك أسألك اللهم بكل اسم هو لك - إلى قوله- إلا أذهب الله همه وغمه وأبدل مكانه فرحا) .

وجه الاستدلال قالوا: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم (عدل في قضاءك) يشمل كل قضاء يقضيه الله لعبده، وهذا يعم قضاء المصائب وقضاء المعائب وقضاء العقوبات على الجرائم، وكذلك استدلوا بحديث ابن عباس الذي رواه أبو داود والحاكم في مستدركه، وفيه: (إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم) .

الجواب أن نقول: معنى قوله: (لو عذبهم لو عذب العباد لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم) الجواب: أن معنى الحديث أن الله لو وضع عدله على أهل سماواته فحاسبهم بنعمه عليهم وأعمالهم لصاروا مدينين له، وحينئذ لو عذبهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم لكنه لا يفعل هذا سبحانه، إنما يبتدرهم بِنِعَم جديدة.

المعنى أن الرب لو وضع عدله في عباده فحاسبهم بأعمالهم ونعمه عليهم لصاروا مدينين فحينئذ لو عذبهم لعذبهم وهو غير ظالم لهم، لو حاسب الله العباد بنعمه عليهم وعدله فيهم لكانت النعمة الواحدة نعمة البصر تحيط بجميع أعمالك كلها وحينئذ تكون مدين تكون هالك، لكن الله لا يفعل هذا، بل هو سبحانه وتعالى لطيف بعباده لو وضع عدله في عباده لحاسبهم بنعمه عليهم وبأعمالهم لصاروا مدينين له، وحينئذ لعذبهم وهو غير ظالم لهم.

وأما قوله: (عدل في قضائك) لا شك أن ما يقضيه الله للعبد كله خير ورحمة مبني على الحكمة.

المذهب الثالث القدرية قالوا: تعريف الظلم كل ما كان من بني آدم ظلما وقبيحا يكون من الله ظلما وقبيحا لو فعله، فالظلم عندهم الظلم الذي يصدر من العباد هو الظلم الذي يصدر من الرب لو فعله، كل ما يسمى ظلما من العبد يسمى ظلما من الرب، فهم مثلوا الله بخلقه، فقالوا: الظلم إضرار غير مستحق أو عقوبة العبد على ما ليس منه أو عقوبته على ما هو مفعول معه.

فالظلم عندهم هو الذي حكم العقل أنه إن صدر من العبد ظلم فهو من الله ظلم إن صدر منه، قالوا: فلو كان الرب خالقا لأفعال العباد مريدا لها قد شائها وقدرها عليهم ثم عاقبهم عليها كان ظالما، ولا يمكن إثبات كونه سبحانه عدلا لا يظلم إلا بالقول بأنه لم يرد وجود الكفر والفسوق والعصيان ولا شائها، بل العباد فعلوا ذلك بغير مشيئة الله وإرادته كما فعلوه بغير إذنه وأمره.

وعندهم أن الله لو وفَّق شخصا وخذل آخر لكان ظالما، ولو نسخ الله حكما بحكم لكان جاهلا ظالما، ويجب على الله عقلا أن يثيب المحسن وأن يعذب المسيء فهذا من أبطل الباطل؛ لأن هذا مبني على التحسين والتقبيح العقليين والصواب أن الله -سبحانه وتعالى-، أن الظلم كما سبق ليس كما يقول هؤلاء: إنه ما كان مماثل للعبد بل الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه فهذا هو الموافق للغة العربية كما سبق.

ولذلك الله سبحانه وتعالى نفى الظلم عن نفسه في قوله {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩) } {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (٤٩) } {لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} نفى خوف الظلم في قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (١١٢) } حرم الظلم على نفسه.

وهذا يدل على أنه ممكن الوقوع، ولو كان لا يمكن لما حرمه على نفسه الإنكار بهمزة الاستفهام على من حسب خلق الخلق عبثا قال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} فتنزه سبحانه عن خلق الخلق عبثا، إنكار التسوية بين المسلمين والمجرمين وهذا يدل على إنكار التسوية كما في قوله: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) } {أَمْ نجعل الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أم نجعل الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨) } {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نجعلهم كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} .

وكل هذا إنكار من الله على مَن جوَّز أن يسوي بين هذا وهذا، وهذا يدل على إنكاره، وإنكار على من حسب أنه يفعل هذا، وإخبار أن هذا حكم سيئ قبيح، وهو ما ينزه الرب عنه، وبهذا يبطل مذهب الطائفتين الضالتين الجبرية والقدرية، نعم.

<<  <   >  >>