للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

يَغْتَسِلُونَ بِهِ لِلْإِحْرَامِ وَالْمَاءُ مَوْجُودٌ فِي رَابِغٍ، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ فِي الْحَجِّ إنَّمَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِحْبَابِ بِخِلَافِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فَيَتْرُكُونَ السُّنَّةَ لِأَجْلِ مُسْتَحَبٍّ. وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ الْغُسْلَ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْإِحْرَامِ فِي الْحَجِّ، بَلْ لَوْ اغْتَسَلَ فِي رَابِغٍ عِنْدَ إرَادَتِهِمْ الرَّحِيلَ ثُمَّ سَارَ إلَى الْجُحْفَةِ وَأَحْرَمَ مِنْهَا لَكَانَ قَدْ حَصَّلَ السُّنَّةَ وَالْمُسْتَحَبَّ. وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَمَّنْ اغْتَسَلَ بِالْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى ذِي الْحُلَيْفَةِ وَأَحْرَمَ مِنْهَا فَقَالَ: إنَّ غُسْلَهُ صَحِيحٌ أَوْ كَمَا قَالَ وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ وَذِي الْحُلَيْفَةِ مَسَافَةٌ أَكْثَرُ مِنْ الْمَسَافَةِ الَّتِي بَيْنَ رَابِغٍ وَالْجُحْفَةِ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: إنَّ الْجُحْفَةَ لَا يَدْخُلُهَا الرَّكْبُ. فَالْجَوَابُ أَنَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْهَا فَهُوَ يَمُرُّ بِهَا، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْإِحْرَامِ أَنْ لَا يُحْرِمَ حَتَّى يَدْخُلَهَا، بَلْ إذَا حَاذَاهَا أَحْرَمَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَغْتَسِلُ فِي رَابِغٍ عِنْدَ إرَادَةِ النَّاسِ الرَّحِيلَ ثُمَّ يَسِيرُ مَعَهُمْ إلَى أَنْ يُحَاذِيَ الْجُحْفَةَ فَإِذَا حَاذَاهَا نَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْ الْإِحْرَامِ ثُمَّ تَعَرَّى مِنْ الْمَخِيطِ وَلَبِسَ ثِيَابَ الْإِحْرَامِ، وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَلْبَسَ ثِيَابَ الْإِحْرَامِ مِنْ رَابِغٍ ثُمَّ يَتْرُكَ الْإِحْرَامَ حَتَّى يُحَاذِيَ الْجُحْفَةَ فَلَهُ ذَلِكَ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ أَوَّلِ الْجُحْفَةِ بِمَا يُرِيدُهُ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ هُمَا مَعًا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَأَحْرَمَ مِنْ وَسَطِهَا أَوْ مِنْ آخِرِهَا، فَذَلِكَ جَائِزٌ لَهُ وَقَدْ تَرَكَ الْأَوْلَى، وَإِنْ أَحْرَمَ بَعْدَهَا فَمَكْرُوهٌ وَعَلَيْهِ الدَّمُ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ سُنَّةً إذْ أَنَّ الدَّمَ جَبْرٌ لِمَا فَاتَهُ مِنْ فَضِيلَةِ فِعْلِ السُّنَّةِ كَمَا أَنَّ سُجُودَ السَّهْوِ فِي الصَّلَاةِ جَبْرٌ لِلْخَلَلِ الَّذِي وَقَعَ فِيهَا. ثُمَّ اُنْظُرْ رَحِمَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ إلَى حِكْمَةِ الشَّرْعِ الشَّرِيفِ فِي الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَهِيَ الْخُرُوجُ مِنْ لُبْسِ ثِيَابِ الْأَحْيَاءِ إلَى لُبْسِ ثِيَابِ الْأَمْوَاتِ؛ لِأَنَّ تَجَرُّدَهُ مِنْ الْمَخِيطِ وَلُبْسَهُ ثِيَابَ الْإِحْرَامِ شَبِيهٌ بِالْمَيِّتِ حِينَ يُدْرَجُ فِي أَكْفَانِهِ وَقَوْلُ الْحَاجِّ لَبَّيْكَ شَبِيهٌ بِقِيَامِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ مُهْطِعِينَ إلَى الدَّاعِي الَّذِي يَدْعُوهُمْ إلَى الْمَحْشَرِ وَالْغُسْلُ

<<  <  ج: ص:  >  >>