للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَمَنْ كَانَ لَهُ لُبٌّ نَظَرَ إلَى أَوَّلِهِ فَوَجَدَهُ نُطْفَةً كَمَا عَايَنَ وَنَظَرَ إلَى آخِرِهِ فَوَجَدَهُ كَمَا رَأَى كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَإِلَى وَسَطِهِ فَوَجَدَهُ حَامِلًا مَا يَرَاهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَخْرُجُ مِنْهُ وَيُعَايِنُهُ فَأَيُّ دَعْوَى تَبْقَى مَعَ هَذَا الْحَالِ؟ وَأَيُّ نَفْسٍ تَشْمَخُ وَلَوْ كَانَ ثَمَّ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ إنْ لَمْ يَكُنْ الْفَيْضُ الرَّبَّانِيُّ وَالْفَضْلُ الْعَظِيمُ فَيَسْتُرُ الْقَبِيحَ وَيُظْهِرُ الْجَمِيلَ وَيَسْتُرُ الْعَوْرَاتِ وَيُؤْمِنُ الرَّوْعَاتِ، وَإِلَّا فَالْمَحَلُّ قَابِلٌ لِكُلِّ رَذِيلَةٍ وَنَقِيصَةٍ كَمَا تَرَى.

هَذَا وَجْهٌ مِنْ النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ وَيَنْبَغِي لَهُ أَيْضًا أَنْ يَنْظُرَ وَيَعْتَبِرَ فِيمَا انْفَصَلَ عَنْهُ، وَأَنَّهُ كَانَ طَاهِرًا طَيِّبَ الْمَذَاقِ شَهِيًّا لِلنُّفُوسِ لَا يُوصَلُ إلَيْهِ إلَّا بِعِوَضٍ وَالْعِوَضُ فِي الْغَالِبِ قَدْ جَرَتْ الْحِكْمَةُ بِأَنْ يَكُونَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا بِمُكَابَدَةٍ وَتَعَبٍ فِي الْغَالِبِ كُلٌّ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ فَهُوَ عَزِيزٌ إذَا يَسَّرَ اللَّهُ أَسْبَابَهُ مِنْ الْمَطَرِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ مَنَعَ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ أَسْبَابِهِ الْجَارِيَةِ عَلَى حِكْمَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَمَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ وَلَا يُوصَلُ إلَيْهِ ثُمَّ، مَعَ هَذِهِ الْعِزَّةِ الَّتِي لَهُ وَالطَّهَارَةِ الَّتِي لَدَيْهِ إذَا خَالَطْنَا قَلِيلًا سُلِبَتْ طَهَارَتُهُ وَذَهَبَ عِزُّهُ وَصَارَ مُنْتِنًا قَذِرًا يُتَحَامَى عَنْهُ وَيَتَوَلَّى الْوَجْهُ مِنْهُ، فَهَذَا كَانَ سَبَبُهُ خُلْطَتَهُ لَنَا وَمُمَازَجَتَهُ بِنَا، وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِهِ حِينَ تَكَلَّمَ عَلَى تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: ٢٤] فَقَالَ: - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَهَبَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ إلَى طَعَامِهِ إذَا صَارَ رَجِيعًا لِيَتَأَمَّلَ حَيْثُ تَصِيرُ عَاقِبَةُ الدُّنْيَا، وَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَتَعَانَى أَهْلُهَا.

وَهَذَا نَظِيرُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَحْدَثَ فَإِنَّ مَلَكًا يَأْخُذُ بِنَاصِيَتِهِ عِنْدَ فَرَاغِهِ فَيَرُدُّ بَصَرَهُ إلَى نَحْرِهِ مُوقِفًا لَهُ وَمُعْجِبًا فَيَنْفَعُ ذَلِكَ مَنْ لَهُ عَقْلٌ انْتَهَى ثُمَّ إنَّهُ لَمْ نَجِدْ هَذَا فِي الطَّعَامِ وَحْدَهُ، بَلْ فِي كُلِّ مَا نُبَاشِرُهُ إنْ لَبِسْنَا ثَوْبًا جَدِيدًا فَعَنْ قَلِيلٍ يَتَوَسَّخُ وَيَتَقَذَّرُ وَعَنْ قَلِيلٍ يَتَمَزَّقُ وَيَخْلَقُ وَإِنْ مَسَّنَا طِيبًا فَعَنْ قَلِيلٍ تَذْهَبُ رَائِحَتُهُ وَيُسْتَقْذَرُ وَأَشْبَاهُ هَذَا كَثِيرٌ فَنَتَجَ لَنَا مِنْ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ الْمُؤْمِنَ

<<  <  ج: ص:  >  >>