للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِمَّا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ وَصَرَّحَ بِهِ. قَالَ تَعَالَى فِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: ٣٨] ذَكَرَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ذَلِكَ فِي مَعْرَضِ إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى مَنْ عَدَا الرُّسُلَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - فَإِنَّهُمْ حُجَّةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ. وَمَعَ كَثْرَةِ عَائِلَتِهِمْ لَمْ يَمْنَعْهُمْ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الْإِقَامَةِ بِأَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ، فَكُلٌّ فِي ذَلِكَ عَلَى مُقْتَضَى مَا أُرِيدَ مِنْهُ. وَقَدْ كَانَ عَيْشُهُمْ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - عَلَى مَا قَدْ عُلِمَ وَاشْتُهِرَ مِنْ شَظَفِ الْعَيْشِ وَخَشِنِ الْمَلْبَسِ وَقِلَّةِ الْجِدَّة، تَكْرِيمًا لَهُمْ وَتَرْفِيعًا لِمَنَازِلِهِمْ السَّنِيَّةِ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - يُحِبُّونَ الْفَقْرَ وَيَعْمَلُونَ عَلَيْهِ وَيَهْرُبُونَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا، لَا جَرَمَ أَنَّا لَمَّا أَخَذْنَا فِي الضِّدِّ مِنْ أَحْوَالِهِمْ جَاءَ الْخَوْفُ مِنْ الْفَقْرِ وَالِاعْتِلَالِ بِالْعَائِلَةِ، فَلَا حُجَّةَ لِمَنْ احْتَجَّ بِالضَّرُورَاتِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْجَوَابِ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الرُّسُلِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ - وَأَحْوَالِ السَّلَفِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ -.

وَقَدْ كَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ: مَا أَتَى عَلَى مَنْ أَتَى فِي هَذَا الزَّمَانِ إلَّا مِنْ الضَّرُورَاتِ الْمُعْتَادَاتِ غَيْرِ الشَّرْعِيَّاتِ، فَكَانَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: هَذِهِ الضَّرُورَاتُ تُقْطَعُ مِنْ أَصْلِهَا، وَلَا حَاجَةَ تَدْعُو إلَيْهَا. مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ الْفَقِيهُ: لَا بُدَّ مِنْ فَوْقَانِيَّةٍ عَلَى صِفَةٍ، لَا بُدَّ مِنْ عِمَامَةٍ عَلَى صِفَةٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ كُتُبٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ دَابَّةٍ، فَإِذَا جَاءَتْ الدَّابَّةُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ غُلَامٍ وَكُلْفَةٍ فِي الْغَالِبِ، وَلَا بُدَّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَغْلَةٍ، وَبَعْضُهُمْ يَتَّخِذُ لِغُلَامِهِ بَغْلَةً أَيْضًا، وَقَدْ يَحْتَاجُ الْغُلَامُ إلَى زَوْجَةٍ، فَلَا يَزَالُ هَكَذَا فِي ضَرُورَاتٍ حَتَّى يَرْجِعَ فِي الدُّنْيَا مُتَّسِعَ الْحَالِ وَهُوَ عِنْدَ نَفْسِهِ أَنَّهُ مَضْرُورٌ، حَتَّى لَقَدْ بَلَغَنِي عَنْ بَعْضِ مَنْ فِي الْوَقْتِ مِنْ أَرْبَابِ الدُّنْيَا الْمُتَّسِعَةِ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَقُول: أَسْتَحِقُّ أَخْذَ الزَّكَاةِ نَظَرًا مِنْهُ إلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَأَشْبَاهِهِ مِنْ الْمَسْكَنِ عَلَى صِفَةٍ وَالزَّوْجَةِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَطْعَمِ وَالْأَوَانِي وَالْجَوَارِي وَالْخَدَمِ وَالْغِلْمَانِ، فَتَأْتِي الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا لِلْوَاحِدِ مِنْهُمْ، وَهُوَ مَهْمُومٌ تَجِدُهُ يَشْكُو مِنْ كَثْرَةِ الضَّرُورَاتِ الَّتِي يَدَّعِيهَا، فَكَانَ سَيِّدِي أَبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -

<<  <  ج: ص:  >  >>