للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

جَسَدِهِ، وَهِيَ الْقَلْبُ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلِسَانُهُ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ صَارَ الْقَلْبُ وَاللِّسَانُ مِلْكَيَّ الْبَدَنِ، وَالْجَوَارِحِ، وَالْقَلْبُ هُوَ الْمُسَلَّطُ عَلَى اسْتِخْدَامِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ مَعْدِنُ الْعَقْلِ، وَالْعِلْمِ، وَالْعِنَايَةِ فَجَمِيعُ الْخَيْرِ، وَالشَّرِّ مُسْتَوْدَعُ الْقَلْبِ، وَاعْلَمْ يَا أَخِي أَنِّي، وَجَدْتُ اللِّسَانَ مُتَرْجِمًا عَنْ الْقَلْبِ إرَادَتَهُ، وَذَخَائِرَ بَصَائِرِهِ، وَوَجَدْتُ الذِّكْرَ جَلَاءً لِصَدَأِ الْقُلُوبِ، وَتَيَقُّظًا مِنْ وَسَنِ الْأَفْئِدَةِ، وَاعْلَمْ أَنِّي، وَجَدْتُ الشُّكْرَ عَلَى مَنْ اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِنُورِ الْعَقْلِ أَكْثَرَ، وَالْحُجَّةَ عَلَيْهِ آكَدَ فَمِنْ هَاهُنَا أُلْزِمَ الْحُجَّةَ، وَانْقَطَعَتْ الْمَعَاذِيرُ مَعَ الْأَعْذَارِ، وَالْإِنْذَارِ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ عَلَيْنَا، وَعَلَى أَهْل الْعُقُولِ مِنْ خَلْقِهِ، وَمَا أَعْرَفُ أَنَّ أَحَدًا أُتِيَ إلَّا مِنْ قِبَلِ تَضْيِيعِ الشُّكْرِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ وَلَدِ آدَمَ أَحَدٌ إلَّا، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِنِعْمَةِ الْعَقْلِ إلَّا قَلِيلٌ.

فَمِنْهُمْ مِنْ حَثَى لَهُ مِنْ الشُّكْرِ، وَحَثَى عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُعْطِيَ مِنْ الْعَقْلِ دُونَ ذَلِكَ فَشَكَرَ اللَّهَ عَلَى قَلِيلِ مَا أُعْطِيَ فَزَادَهُ اللَّهُ حَتَّى عَلَا فِي دَرَجَةِ الْعَقْلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ النِّعْمَةَ فَلَمْ يَأْخُذْهَا بِشُكْرٍ فَنَقَصَ عَنْ دَرَجَةِ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ أَعْظَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النِّعْمَةَ فِي الْعَقْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ شُكْرُهُ عَلَى قَدْرِ عَظِيمِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْلَ، وَالْهَوَى ضِدَّانِ مُرَكَّبَانِ فِي الْعَبْدِ كَتَرْكِيبِ الْجَوَارِحِ، وَهُمَا يَعْتَرِكَانِ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ فَأَيُّهُمَا غَلَبَ اسْتَعْلَى عَلَى صَاحِبِهِ، وَاسْتَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ فَكَانَتْ أَعْمَالُهُ كُلُّهَا بِالْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ فَكَانَ لَهُ تَبَعًا فَشَكَرَ الْعَبْدُ إذَا كَانَ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ عَقْلِهِ أَنْ يَتْبَعَ دَلَالَةَ عَمَلِهِ، وَعَقْلِهِ فَيُؤْثِرُ دَلَالَتَهُمَا، وَمَا يَدْعُوَانِ إلَيْهِ عَلَى هَوَى نَفْسِهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَمْرَ عَظِيمٌ عَلَى قَدْرِ مَا نَرَى مِنْ غَلَبَةِ الْهَوَى عَلَيْنَا، وَاسْتِمْكَانِ الدُّنْيَا مِنْ قُلُوبِ عُلَمَائِنَا، وَجُهَّالنَا فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنَّا كَذَلِكَ عَزَّ وُجُودُ الصِّدْقِ عَلَى كَثْرَةِ وُجُودِ مَعْرِفَتِهِ، وَوَصْفِهِ، وَقَلَّ الْعَمَلُ بِهِ، وَالْقِيَامُ بِحَقِّهِ، وَقَدْ فَشَا الْكَذِبُ، وَكَثُرَ الرِّيَاءُ، وَالتَّزَيُّنُ لِلدُّنْيَا، وَسُلُوكُ أَوْدِيَةِ الْهَوَى، وَنُزُولُ أَوْدِيَةِ الْغَفْلَةِ.

وَلَا يُؤْمَنُ السَّبِيلُ أَنْ يَرْكَبَ عَلَى تِلْكَ الْغَفْلَةِ فَتَتْلَفُ النَّفْسُ، وَأَنَّ الْهَوَى قَدْ قَامَ مَقَامَ الْحَقِّ يُعْمَلُ بِهِ، وَيُقْضَى بِقَضَائِهِ، وَيُحْكَمْ بِحُكْمِهِ

<<  <  ج: ص:  >  >>