للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَقَصْرُ الْأَمَلِ فَهَذِهِ الْخَصْلَةُ شَرِيفَةٌ مِنْ خِصَالِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْخَصْلَةُ الثَّالِثَةُ فِي الزُّهْدِ: فَتَصْدِيقُ الْعَبْدِ رَبَّهُ فِيمَا أَخْبَرَهُ بِهِ مِنْ نَعِيمِ الْآخِرَةِ، وَمَا خَوَّفَهُ بِهِ مِنْ عِقَابِ النَّارِ وَعَذَابِهَا، وَمَا حَذَّرَهُ مِنْهُ مِنْ الدُّنْيَا، وَالِاغْتِرَارِ بِهَا فَزَهِدَ فِيهَا، وَأَحَبَّ بِالْمَوْتِ مُفَارَقَتَهَا، وَالتَّبَاعُدَ عَنْهَا، وَالْخُرُوجَ مِنْهَا إلَى دَارِهِ وَقَرَارِهِ تَبَصُّرًا مِنْهُ بِالدُّنْيَا، وَحَالِهَا فَهَذِهِ الْخَصْلَةُ مِنْ خِصَالِ الزُّهْدِ أَشْرَفُ مِمَّا قَبْلَهَا، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: مَا تَرَكْت لِي إلَى الدُّنْيَا، وَالرُّكُونِ إلَيْهَا سَبِيلًا، وَلَقَدْ اسْتَبَانَ لِي مِنْ قَوْلِك الْبِرُّ وَالْحَقُّ، وَوَضَحَ لِي مِنْ وَصْفِك الصِّدْقُ، وَقَوِيت - بِحَمْدِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ - عَلَى الزُّهْدِ فِيهَا، وَرَفْضِهَا؛ فَصِفْ لِي بِصِفَتِك الشَّافِيَةِ، وَنَعْتِك النَّافِعِ دَوَاءً لِدَاءِ قَلْبِي تُخْبِرنِي فِيهِ عَنْ الْأَمْرِ الَّذِي يَدُلُّنِي عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ، وَيُقَوِّينِي عَلَيْهَا.

فَقَالَ: الْأَمْرُ الَّذِي يَدُلُّك عَلَى هَذِهِ الْخِصَالِ، وَيُقَوِّيك عَلَيْهَا، وَيُنَوِّرُهَا فِي قَلْبِك هُوَ الْيَقِينُ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ شَكٌّ، وَالتَّصْدِيقُ بِرَبِّك الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ لَبْسٌ فَإِنَّهُ مَنْ صَدَقَ رَبَّهُ أَيْقَنَ، وَمَنْ أَيْقَنَ أَبْصَرَ، وَمَنْ أَبْصَرَ زَهِدَ، وَالزُّهْدُ فِي الدُّنْيَا شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْيَقِينِ، وَأَفْضَلُ الْيَقِينِ التَّوَكُّلُ، قَالَ: فَصِفْ لِي الْيَقِينَ لِأَعْرِفَهُ.

فَقَالَ: أَنْ تَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيك لَهُ، وَأَنَّهُ الْحَقُّ الْمُبِينُ، وَأَنَّهُ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ فِي قُدْرَتِهِ، وَسُلْطَانِهِ، وَخَلْقِهِ، وَأَنَّ وَعَدَهُ حَقٌّ، وَقَوْلَهُ صِدْقٌ، وَكَذَا وَعِيدَهُ، وَكُتُبَهُ، وَرَسُولَهُ حَتَّى تُقِرَّ بِذَلِكَ فِي قَلْبِك، وَتَتَّبِعَ كِتَابَ رَبِّك فَهَذَا الْيَقِينُ الَّذِي لَا يُشَكُّ فِيهِ، قَالَ: صِفْ لِي التَّوَكُّلَ لِأَعْرِفَهُ، فَقَالَ: التَّوَكُّلُ هُوَ الْعَمَلُ بِطَاعَتِهِ، وَتَصْدِيقُ الْيَقِينِ دَلَالَتَهُ، فَمَنْ أَيْقَنَ وَعَلِمَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْأَشْيَاءِ، وَالْمُقْتَدِرُ عَلَيْهَا، وَالْمَالِكُ لَهَا، وَالْمُنْفَرِدُ بِهَا تَوَكَّلَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَقَطَعَ رَجَاءَهُ عَمَّنْ سِوَاهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَلَمْ يَثِقْ بِأَحَدٍ، وَلَمْ يَأْنَسْ إلَّا بِهِ فَانْقَطِعْ إلَى اللَّهِ، وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ حَالَاتك فَهَذِهِ صِفَةُ الْعَمَلِ وَالتَّوَكُّلِ وَمَأْخَذِهِ، قَالَ: مَا الَّذِي يَدُلُّنِي عَلَى الْفِكْرَةِ، وَيُقَوِّينِي عَلَيْهَا فَإِنِّي كُلَّمَا أَرَدْت الْفِكْرَةَ لَمْ أَصِلْ إلَيْهَا، وَلَمْ أَقْدِرْ عَلَيْهَا فَقَالَ: أَجَلْ لَا تَصِلُ إلَى مَا تُرِيدُ مِنْ الْفِكْرَةِ مَعَ الِاشْتِغَالِ

<<  <  ج: ص:  >  >>